فرحات حشاد: “أحبّك يا شعـب”.. الصرخـة التي بلغت المدى

فرحات حشاد
فرحات حشاد

«أحبك يا شعب» قالها ومضى يسخّر كلّ حياته فداء للوطن قالها بلسانه وكتبها بدمه، قالها مؤمنا بها، مؤمنا بأنّ الشعب الذي سيدفع في سبيله حياته لن ينساه، وكيف ينساه، فهو من كتب له القدر أن يدفع حياته دفاعا عنه وعن حقوقه.
فرحات حشاد هذا الزعيم القائد المناضل، صاحب الخصال الحميدة التي يتميّز بها عادة الزعماء والأبطال بشهادة من عاشروه وعرفوه وذلك في عديد المناسبات.
فرحات حشاد، شهيد النضال السياسي والنقابي، شهيد رفضه للخنوع والركوع والتنازل أو حتى مجرّد الدخول في مفاوضات قد تلبي طموحات المستعمر.
لا يستسلم… ينتصر أو يموت
فرحات حشاد الذي جعل حبه لوطنه ولشعبه المحرك الأساسي لنضاله الذي كان يربك المستعمر بل قل يفزعه، في الوقت الذي كانت تهديدات المستعمر لحشاد تقويه. فقد كان ممن «لا يستسلم فإما ينتصر أو يموت» لذلك اختار ألاّ يخضع أو يرتد عن قناعاته فسار يكثف من أنشطته رغم تضييقات المستعمر فأسس اتحاد النقابات بتونس سنة 1946م وسعى أن يعطيها كلّ صفات الاتحاد وأشكال نضاله عبر التعاون والاعتصام والتعاضد.
ومنذ تأسيسه لهذه المنظمة سطع نجم حشاد أكثر وطنيا ودوليا كزعيم وطني بارز ومناضل سياسي له تأثيره ومآثره وزاد إشعاعه عندما زار الولايات المتحدة الأمريكية كموفق بين النقابات يرتضون تحكيمه.

كما زاد إشعاع الرجل وتأثيره عندما صار زعيما للحركة الوطنية ونقابة العمال ورمزا من رموزها وبفضل خصاله العديدة اكتسب شعبية كبرى جعلت الناس يلتفون حوله وهو ما حرّك مزيدا من العداء لدى المستعمر فكان قرار اغتياله بعد أن اعتبر خطرا حقيقيا.

اغتيال حشاد
اغتيل من كان نصيرا للشغالين في 5 ديسمبر 1952 على يد منظمة اليد الحمراء التي بعثت لغرض تصفيته.
وكان اغتياله بمثابة الشرارة التي أشعلت نار المقاومة الوطنية عاليا ولم يستطع المستعمر بعد ذلك اخمادها فقد بث فيها الزعيم من روحه ولم يستطع مغتالوه اخماد صوته لا حيا، ولا ميتا و«كان عمره أطول من عمر قاتليه»، فبعد حوالي 60 سنة من اغتياله لازال حيا حيا في ذاكرة كل التونسيين في ذاكرة من عرفه أو من لم تصله منه إلاّ أنباء عن نضالاته التي توارثتها الأجيال عن بعضها البعض.
وفي هذا اليوم بالذات، في عيد الشغالين لا بدّ من احياء ذكرى نصير الشغالين، ذكرى من كان سببا في أن يكون للشغالين هيكل خاص يدافع عن حقوقهم، أفليس من أبسط ما يمكن أن نهديه لهذا الرجل في هذا اليوم أن يطالب كل تونسي وتونسية بصوت واحد بحق هذا الرجل في أن يرفع الغطاء عن أسرار قضية اغتياله، فالقضية هي قضية وطن وقضية أمة قبل أن تكون قضية فرد أو عائلة وقضية فرحات حشاد هي قضية كل التونسيين وقضية كل الأجيال فمن أغتيل هو رمز لصمودهم ورمز لكرامتهم ورمز لحرياتهم ولا بد أن يحاسب كل من تورّط في اخماد صوت من دافع عن هذه الحقوق.
لذا، وبطريقة خاصة أردنا أن يكون لنا حظ في المشاركة في احياء ذكرى فرحات حشاد وذلك من خلال حديث كان لنا مع نجله السيد نور الدين حشاد حاولنا من خلاله البحث عن تفاصيل قد لا تكون معروفة للجميع عن يوم اغتيال الزعيم وعما بقي في ذاكرته من ذاك اليوم ومن حشاد الأب ومن نضال عائلته بعد اغتياله ضد مصاعب الحياة.
كما تحدثنا معه عن مسار قضية الاغتيال التي لم ترفع جلستها بعد إلى يومنا هذا وعن مستجدات هذه القضية.

ذكريات حشاد الابن عن حشاد الأب
بدأنا الحديث عمّا بقي لحشاد الابن من ذكرى عن حشاد الأب فانطلق بنا ممّا بلغه عن والدته من ايام فرحات ـ كما كان يحلو له أن يناديه ـ وكان حينها لم يتجاوز الـ 8 من عمره إذ لا يذكر شيئا عن طفولته وهو يرى في ذلك حكمة الاهية لتجاوز المحنة.
اعتلى صرح البطولة
في تلك الأيام الأخيرة وكما حدثته والدته كانت حماسة فرحات حشاد على أشدها للتصدي للمستعمر. هذه الحماسة التي لم تهدأ يوما، وكانت الخيوط حينها تنسج لحبك خطة اغتياله ولم يكن حشاد غافلا عن ذلك بل كان يشعر بذلك دون أن يخشاه بل رفض حتى مجرد الاختفاء رغم أنه قد بلغته تهديدات بالقتل ومحاولة لتفجير منزله، لكنّ الرجل قد اعتلى في تلك الأيام الاخيرة صرح البطولة ومن يعتلي ذاك الصرح فلن ينزل عنه الا منتصرا او مستشهدا.
وفي يوم غرة ديسمبر وكما حدثنا نجله بملامح تشعرك وانّ الحدث لم يكن ببعيد وبأن انفاس محدثنا لازالت تعيش تلك الذكرى بكل تفاصيلها.. في ذاك اليوم طلب حشاد من زوجته التوجه الى مدينة سوسة حيث يعيش اخوالها، وكانت حينها لم تتجاوز من العمر الـ22 ربيعا، على ان يبقى ابنهما نور الدين (محدثنا) في رادس مع وعد بأن يحمله الى والدته يوم الجمعة.
وكم تعجبنا لما رواه لنا عن سؤال زوجته انذاك عن سرّ ابتسامة رسمها على ثغره حينها رغم صعوبة الظروف التي كان يقاسيها، فكانت الإجابة بأنه كان يضحك منهم فسألته من جديد «ومن هم؟»، فأجابها بأنه رأى في منامه أنه كان يسير في وسط الطريق في اتجاه حلق الوادي وكان «العسكر الفرنساوي» على يمينه وعلى يساره، وكان يرى في اخر الطريق باخرة كبرى راسية، فكان يقول لنفسه «أنا قوي الى هذا الحد؟» هذا الكلام جعل من زوجته وكما روى محدثنا عنها تظن انه سيدخل السجن وهو يخفي عنها ذلك، فكان رده «يا ريت» لانه كان يعلم ان الامر اخطر من ذلك بكثير.
ومن عجائب الامور ايضا ان ابنه نور الدين كان من الممكن ان يكون مصاحبا له داخل السيارة التي اغتيل فيها لكنّ حمى شديدة اصابته جعلت الوالد او لنقل القدر يمنح الابن حياة أطول من حياة والده ليسخّر ذاك الفتى الصغير حياته فيما بعد بحثا عمن كانوا وراء اغتيال والده.

مظاهرات كبرى ردا على اغتياله
وعن يوم اغتياله وما بقي في الذاكرة من ذاك اليوم، يروي السيد نور الدين حشاد انه في ذلك اليوم تم الاعلان عن حالة الطوارئ فخبر اغتيال الزعيم حشاد ملأ البلاد بالمظاهرات من مشرقها الى مغربها واعلن المواطنون حالة من العصيان واطفأت اضواء «البراميس» التي كان تستعمل حينها للانارة وأظلمت تونس حزنا عليه.
كان خبر اغتياله صدمة كبيرة لجميع التونسيين وأيضا لعائلته واصدقائه ورفاقه في النضال، فلم يكن ذاك اليوم عاديا بالمرة، كان يوما يذكر فيه السيد نور الدين وبصور اشبه بالومضات الحزن الشديد الذي كان يسيطر على والدته ويذكر يومها انها أمسكته من يده وقالت له «بابا قتله الفرنسيون ولن يعود» فخاطبها بقوله «لا تخافي نور الدين معاك»، ولعل الطفل حينها لم يكن يعي حجم المسؤولية التي ألقيت علىعاتقه ليخرج بعائلته الى برّ الامان.

جثمان حشاد على باخرة حربية
ويعود من جديد محدثنا الى ذاك التاريخ والى ما يذكره عن نقل جثمان الشهيد الذي حملته باخرة حربية جاءت من مرسيليا لترسو في ميناء حلق الوادي يوم 3 ديسمبر، ولمن تابع الاحداث فهي نفس الباخرة التي رآها فرحات حشاد في منامه.
في ذاك اليوم سافرت العائلة الى قرقنة مسقط رأس الزعيم وأين سيوارى الثرى، وكان خروجهم من تونس على الساعة 12 ليلا وكان البرد شديدا.
ومن التفاصيل التي التصقت بذاكرته منذ ذاك اليوم الفاصل في حياة طفل الأمس وكهل اليوم انه كان حينها داخل سيارة الأجرة يتدثر مع إخوته «ببطانية قفصية» قال ذلك، وشعرت حينها وكأن برد تلك الليلة الحزينة لازال ماكثا في جسمه يذكره بقسوتها.

فرحات الانسان
كان محدثنا من حين لاخر يتحدث عن فرحات الانسان، عن خصال فرحات، عن إخلاصه، عن ترفعه وتعاليه عن ذكر أي أحد بسوء، فمن الغرابة بأمر أنه اصطحب بورقيبة معه الى مؤتمر النقابات بأمريكا حيث مكثا لمدة شهر في نفس النزل وذلك في سبتمبر 1951، لكنه لم يتحدث يوما عما دار بينهما من حديث او عن بورقيبة نفسه.

«إما أن أموت أنا أو بن يوسف او بورقيبة»
وعند ذكره لبورقيبة تذكر ايضا يوم قال فرحات حشاد لعمه الذي جاء يحذره قبل 6 اشهر من اغتياله مما قد تحدق به من أخطار نتيجة لنضالاته، فقال حينها «فرنسا تهنّى عليها» واضاف:« تونس لكي تأخذ استقلالها يجب ان اموت انا او صالح بن يوسف او بورقيبة» وهو ما يفسر تحديه للموت وكأنما كان يهب نفسه لها بل يبحث عنها ليعجّل استقلال البلاد.

عندما يقول حشاد الابن:«لن اسامح فرحات»
ورغم الاحساس العميق لحشاد الابن بعظمة تضحيات والده وبرغم ايمانه بأن الله كلف والده بمهمة قام بها على احسن وجه، فإن لحظات كانت تمر عليه يشعر فيها بعمق احتياجه لوالده، ولعل ذكرى تلك اللحظات وألمها وقسوتها مرت بمحدثنا حين كنا معه فقال وبصوت متقطع من شدة التأثر: «لن اسامح فرحات لأنه تركني». وبكى حشاد الابن اباه كما لم يبكه من قبل وذلك في مناسبة اولى خلال حديثنا الذي تواصل اكثر من 3 ساعات وبكى ايضا عندما حدثنا عن ابنته حفيدة فرحات حشاد التي وقفت امام آلان جوبيه وجها لوجه وقال له امام الملإ:«لديكم قضية لازالت مفتوحة الى اليوم ونريد ان نعرف ما جرى حينها».

من كرامات فرحات حشاد
كان الحديث مع ابنه يأخذنا الى تواريخ قريبة ليعود بنا الى اكثر من خمسين سنة، فكأنما ذكرياته عن والده لاترتبط بتسلسل زمني معيّن، فهي تعايشه الى حدّ اليوم وممّا تذكره ما يعد من كرامات فرحات حشاد وكرامات الشهداء والصالحين ، فبعد 3 سنوات من اغتياله وحينما ارادت العائلة استخراج جثته من قبره في قرقنة لدفنها في تونس العاصمة وذلك سنة 1955 وجدوا أنّ الجثة لم تتغيّر ولم تضمحل بل أن بقعة الدم على جبينه بقيت على حالها فأصيب جميع من كان حاضرا بالنهوض ومنهم أحمد بن صالح الذي كان رئيس الاتحاد العام التونسي للشغل آنذاك وأغمي على عبد العزيز بوراوي.
ورحيل فرحات حشاد لم يمنع حضوره في جميع الاجتماعات الهامة للاتحاد في شخص ولديه فمن سنة 1954 الى 1963 كانا ضيفين شرفيين على مؤتمرات الاتحاد، وكان لدخولهما قاعة المؤتمر في كل مرة وقع كبير على الحاضرين الذين كانوا يرددون الله أكبر ، الله أكبر اجلالا واحتراما لذكرى الزعيم الراحل.
وبعد رحيله أيضا ومن سنة 52 الى 56 جعل محبيه بيته مزارا يتبركون به فيتحولون للمكوث أمام بيته.
نجل فرحات حضر أيضا مع بورقيبة والباي والأمير فيصل ومحمد الخامس على نفس المنصة في أول ذكرى للاستقلال وهو اعتراف لدور حشاد في الحصول على الاستقلال.

لاثبات حق الشهيد
قضية اغتيال فرحات حشاد هي جريمة تصنّف ضمن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الانسانية، وهذا النوع من الجرائم لا يسقط مع تقادم الزمن وهو العنوان الذي تطلب من خلاله عائلة الشهيد الراحل فرنسا بحقها لا في الاعتذار عن هذه الجريمة النكراء وهذا ما قاله ابن الزعيم لسركوزي «أنا غير معني باعتذاركم» فالقضية بالنسبة لهم هي قضية ذاكرة تتعلق باغتيال فرحاد حشاد، ذاكرة عمل الفرنسيون على دفنها في أرشيفهم والقضية هي قضية اعتراف بحقّ دولة وحق عائلة في كل يتعلق بذكرى والدهم واعتراف بأن الحكومة الفرنسية هي من خططت لعملية الاغتيال وليست الاقامة العامة وحدها.
مشوار طويل سلكته العائلة لاثبات حق الشهيد، فمنذ سنة 1964، وكان حشاد الابن حينها يبلغ من العمر 20 سنة طلب من والدته أن تمكّنه من كل ما لديها من وثائق تتعلق بوالده. ومن كيس قماش كان فرحات حشاد قدم به من أمريكا أخرجت بعض الأوراق القليلة وبعض الصور ويقول فيها «بعد ان استلمت تلك الوثائق القليلة أخذت عهدا على نفسي أمام والدتي ومن باب رد الجميل لها أن أسخّر جزءا هاما من حياتي لهذه القضية وبعد 48 سنة من ذاك التاريخ تمكّنت من بعث مركز فرحات حشاد للبحوث التاريخية والدراسات الاجتماعية جمعت فيه الوثائق التي تحوم حول فرحات حشاد والتي وصلت الى ألفي وثيقة وحوالي 100 الف وثيقة تهمّ الحركة الوطنية والمغاربية فتكوّنت لدي مكتبة من المعطيات».

اصطياد الاثباتات
طيلة هذه الفترة كانت عائلة حشاد «تصطاد» الاثباتات والأدلة عن مقتل الزعيم وحاول ابن الزعيم ان يصل الى كل من لديه اية معلومة. فمنهم من مات ومنهم من تمكن من الوصول اليه ومنهم «دي هوت كلوك» المقيم العام الفرنسي الذي عين في جانفي 1952 وقد تمكن من الوصول اليه عن طريق ابنه كما تمكن من الوصول الى «منديس فرنس» و«متيران» وكانوا مبهورين بالزعيم الراحل.

أحد أعضاء اليد الحمراء في اعتراف صريح
وما اعطى للقضية بعدا ومنعرجا آخر تصريح لاحد اعضاء اليد الحمراء «انطوان مبلرو» ضمن شريط وثائقي للجزيرة عن فرحات حشاد صرح فيه هذا الاخير ان اليد الحمراء التي اغتالت فرحات حشاد هي مؤسسة من المؤسسات الفرنسية المختصة فكان هذا التصريح بمثابة الحجة الرسمية التي يمكن تقديمها للسلط الفرنسية لاثبات ان اغتيال فرحات حشاد هو قرار حكومة فرنسا وليس قرار الاقامة العامة فبعثت منظمة اليد الحمراء التي نصبت للشهيد كمينا بشوشة رادس وعند وصوله قام اعضاء المنظمة الذين كانوا على متن سيارتين بتصفيته.
حاول حشاد الابن الوصول الى ميلرو وتمكن من ذلك والتقيا في باريس في ساحة الجمهورية وكان لقاء يشوبه الكثير من الحذر فكان من اعترافاته تورط الحكومة الفرنسية مؤكدا انه كان في المغرب حين اغتيل فرحات حشاد وان «عصابة» اليد الحمراء بعثت اساسا لاغتيال هذا الزعيم النقابي الذي اقلق الفرنسيين فلم يتمكنوا من ترويضه وصار يشكل خطرا على مصالحهم كما ان برنامجه في التعليم والاقتصاد والتسلح الى جانب موقفه من الشيوعية والعلاقات الامريكية الفرنسية لم يدع اي خيار للفرنسيين. هذه كانت «مبررات» من كان يدا من الايادي الحمراء التي كانت وراء اغيال العديد من زعماء العالم العربي ومنهم حشاد وكان رد نجله حينها « لكن فرحات قد انتصر على فرنسا».
هذه الادلة اي تصريح «ميلرو» استعملها الاتحاد من جهته لفتح القضية من جديد .

قضية لم تغلق بعد
قضية فرحات حشاد لا تزال الي اليوم لم تكتمل اجزاؤها رغم وضوحها رغم مرور 60 سنة وآن الاوان ان تفتح كقضية لكل فرد من أفراد الشعب التونسي الذي دفع فرحات حشاد دمه فداء له .

فاطمة السويح / الصحافة

قد يعجبك ايضا