د. علي الزواري .. الوفاء لعلمه الزّاخر، ولشخصه المتفرّد (ج2)

علي الزواري

كتب رضا القلال

كنت ولا زلت أتردّد على منزل د.علي الزواري، أو على الأقل أهاتفه من حين لآخر، وأنشغل عنه عندما لا أحظى بردّه، وأسمع صوته، وألتجأ فورا إلى صديقنا المشترك منصف بن صالح لأطمئن عليه. كلّ الصباحات أو الأمسيات معه لا تنسى لأنّها راشحة بالعلم، فوّاحة بالوفاء والعواطف الزاخرة. ود.علي الزواري من المؤرخين الذين أريد أن أستمع إليهم، وأسألهم، وأتلمّس مقارباتهم في أحداث التاريخ وقراءتها. كما يحصل ذلك مع د. فوزي محفوظ مدير عام المعهد الوطني للتراث، وأكبر المتخصّصين في الأركيولوجيا الإسلامية في العصر الوسيط ، وفي ذلك له معرفة استثنائية بمدينتي صفاقس والقيروان، فهو اطلع على كلّ أعمالي التأليفية قبل نشرها، وقدّم لي الكثير منها، وكذلك مع د. عبد الواحد المكني، رئيس جامعة صفاقس، أكثر المؤرخين حضورا وإشعاعا في الحياة العامة، قدّم لي كتاب “احتلال صفاقس، وملحمة المقاومة” وراجع لي متن كتاب” المناضل محمد بكور، الماضي يضيء الحاضر”، إلى جانب الصديق د. ناصر البقلوطي الذي ترجم بعض أعمالي، وهو الباحث المدقّق في الحكايات الشعبية التونسية، والخبير الحاذق بتسجيل التراث المادي وغير المادي في قائمة التراث العالمي، ود.خليل قويعة الذي قمت معه بعمل مشترك، أو هو مزيج تأليفي حول “البلاد العربي ، 12 قرنا من التاريخ والحضارة” وأحب فيه الطريقة التي تعمل بها العقول الفلسفية، حيث الدقّة والانضباط والصرامة التحليلية. وخضنا معا، من خلال هذا الكتاب، في ثقافة السؤال التاريخي، مقابل ثقافة “الجواب والحفظ” التي نجدها شائعة في واقعنا. ولا شك أن حكمة التاريخ والفلسفة تتحقّق من قدرتها على طرح الأسئلة.

ود.علي الزواري في نتاجه الدّافق ينبئ بإنسان شدّه التاريخ إلى أحضانه، فأمضى سحابة عمره وهو عاكف على الكتب والمخطوطات، يعيش في عالم من ورق وأقلام قبل أن تنتشر لوحة الكتابة في الكمبيوتر الفردي. والسؤال الذي يحضرني، أين هي رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه التي تنعقد حول مجمل أعماله التي حظيت بثناء كبير؟ فهو على غزارة علمه، ونفاسة ماخطّ وما أصدر من كتب عن التاريخ الصاخب لصفاقس بالعذب والمرّ، وبالقادة والرموز والمؤسسات،… وعلوّ كعبه، والمكانة العلمية السامية التي ارتقاها، لم يكن موضوع الباحثين أو النقاد ليستنطقوا، إبّان حياته، مفاصل سيرته وإشكاليات مؤلفاته! إن النقد التاريخي في أزمة جليّة عندنا، ويكاد يغيب عن حياتنا الجامعية، كما يكاد يغيب النقد بالكامل عن حياتنا الثقافية. لقد أورثنا د.علي الزواري مكتبة تاريخية وتراثية شائقة، وهو رجل علم وعلاّمة في ميدانه. ولأنه يؤثر حياة الظل، والتواضع سمة بارزة في كيانه، لم تأته الشهرة التي يستحقّها في المدونة العلمية، كما أن الوفاء لعلمه الجمّ ولشخصه المتفرّد مازال غائبا !!!

فلا الجامعة ولا الجمعيات التاريخية أو الثقافية خصته “بسمبوزيوم” مثلا للتأمّل في انتاجه الغزير، والنظر في التراكم التاريخي والمعرفي الذي أضافه إلى ماضي صفاقس، وأحدث به منعطفا واضحا في تاريخ المدينة، بل له كتابات مؤسّسة فعلا في مجال المعرفة التاريخية، تنمّ عن جهد مخلص قلّ مثيله. إضافة إلى تجاربه في إذاعة صفاقس، وانخراطه في المجتمع المدني (رئاسة جمعية التقدم المسرحي) وزبدة القول أن أيّ حديث عن تجربة د.علي الزواري هي تجربة خصبة وغزيرة ومتنوعة في التاريخ والتراث والمسرح والاعلام تستمد كينونتها من تعدّده الداخلي.

صفاقس: شغف ومحبة

ولد د.علي الزواري بصفاقس في 24 أكتوبر 1935، منتميا لجهته ولوطنه فيما بين الحربين العالميتين. عاش بهذه المدينة واشتغل بها، ومازال وفيّا إلى مقام استراحته في بيته وحديقته ونهجه المزروع بأشجار الزيتون، وأيضا إلى جذاذاته القديمة من حين لآخر. غادر صفاقس فقط ليواصل تعليمه بقسم التاريخ بدار المعلمين العليا بتونس، ثم متردّدا على جامعة (بروفنس) Provence بمرسيليا (1973…) أين حصل على دكتوراه الحلقة الثالثة في التاريخ، ليصبح باحثا ثم مدير بحوث بالمعهد الوطني للتراث، ومتفقدا للتراث بالجنوب الشرقي. ومن صفاقس انتقل إلى القاهرة مبعوثا من الجامعة ذاتها سنة 1978 واشتغل فيها لعدة أسابيع على “علاقة صفاقس بالشرق ومصر خاصة”. ولم يقم بهذه الرحلة العلمية البحثية أحد من صفاقس، لا من قبله ولا من بعده، إلى حد الآن، رغم مركزية العلاقات التجاريّة القديمة بين مثلث صفاقس وطرابلس(افريقيا ما وراء الصحراء…) والقاهرة(الإسكندرية…).والتجارة، كما نعلم، لا تنقل البضائع فقط، إنما أيضا الأفكار والعادات والقيم.

وكما التذّ ابن بطوطة العائش في القرن الرابع عشر (1304-1377م) بغواية السفر وافتتن به، وقضى ما يقارب الثلاثين عاما من حياته متنقلا بين بلدان المنطقة العربية (ومنها صفاقس) وآسيا وافريقيا، فإن د. علي الزواري عاش أكثر من 30 سنة في “البلاد العربي” بصفاقس، في هذه القطعة البديعة العتيقة، المدينة التي لها تاريخ، ولكن دمّرها جهل المسؤولين، واللاّمبالاة العائلات الوارثة، وأنانية المصالح الضيقة، وغياب الحس التراثي والتاريخي عندهم جميعا. وبرغم آلام الجراح مازالت تحتفظ المدينة التاريخية بصفاقس بروحها، ومازالت ذاكرة المدينة العتيقة هي التي تصنع صورة صفاقس الوطنية والعالمية بسورها الخالد وجامعها الكبير، الذي لا يغيب أبدا عن مدوّنة الجوامع الإسلامية.

وحتى لا تموت هذه المدينة التي عمرها ما يناهز 12 قرنا، لا توجد وسيلة لإنقاذها، سوى إبقائها حيّة في كل ذاكرة، الذّاكرة من حيث هي قوّة نفسيّة تحفظ الأشياء وتستحضرها. ” بلاد العربي تحزّن من جميع النواحي، وبرج النار ماشي يرجع يخرب، ناس ليست لهم ثقافة ولا حس تراثي وتاريخي” هذا ما يذكره لي د.علي الزواري منذ سنوات، إلى أن أصبح يقول: “لم أعد أريد أن أذهب إلى البلاد العربي لأني نرجع مريض”، وهو الذي مشواره الحياتي والمهني يؤرخ للمدينة العتيقة. فقد كانت له اليد الطولى في دار الجلولي وبرج النار ومتحف القصبة الذي اشترك في بعثه في التسعينات من القرن الماضي، حيث وفر المادة العلمية و(الأعلاق) كما يقول د.محمد حسين فنطر، وهي معروضات المتحف، ود.الناصر البقلوطي الذي أنجز التهيئة المتحفيةmuséographie et sinographie، إلى جانب الجامع الكبير والسور وجمعية صيانة المدينة التي كان كاتبها العام ورئيس البلدية هو رئيسها، وجمعية أحباء المتحف … وعلى الأرجح ليس ثمّة مكان داخل أسوارها لا يعرفه د.على الزواري على نحو أفضل. ويعلم أين يقع كل حي وكل نهج وكل سباط وقيسرية وكل زاوية ومصلّى. ولا شك أنه كتب عن صفاقس بكل المشاعر والأحاسيس على حدّ ما ذهب اليه ابن حزم الاندلسي في “طوق الحمامة في الألفة والألاف” سنة 1027م لتتحول هذه المدينة الملهمة جزءا من دمه ولحمه وروحه.

أذكر مرة وأنا أغادر بيته همس إليّ بلطفه المعهود وحكمته، صفاقس شغف ومحبة ( sfax, est une passion et un amour) والشغف لا يكفي بدون محبة. إن قلبه حقيقة مولع بالزمن والماضي الجميل لهذه المدينة، ولهذا يستحق في نظري أن يحظى بالإكرام والاحترام والرعاية الوافرة، في مواجهة صناعة الأبطال المزيفين، والأسماء التي تحتاج إلى مجهر كي تراها، والتي أصبحت مزدهرة في خضم عودة تنامي الجهل والخرافة، وانحطاط العقل في السنوات الماضية.

إقرأ الجزء الأول / علي الزواري : اشتغال تاريخي زاخر بالتنوع والفرادة

قد يعجبك ايضا