جمعية دنيا الحكاية بصفاقس تجدف باقتدار ضد أكثر من تيار

جمعية دنيا للحكايةتعمل جمعية دنيا الحكاية بصفاقس منذ أفريل الماضي على تنفيذ مشروع رائد وطموح مدعوم من طرف الاتحاد الأوروبي في إطار برنامج “تفنن – تونس المبدعة”ودلك على غرار الجمعيات الناشطة في مجتمع مدني آمن بدوره في مواجهة ما تشهده البلاد من أخطار لم تعد خافية على احد. ولقد اختار المشرفون على هذه الجمعية الفتية تجنيد طاقاتهم لمقاومة أربع تيارات خطيرة لا تنفك تتفشى يوما بعد آخر في بلادنا كما في عديد البلدان الأخرى وفق ما جاء في لقاء جمعني بالاستاذ عبد اللطيف معطر المدير التنفيذي لمشروع مهرجان الحكاية بصفاقس الدي أكد أن أول هذه التيارات يتمثل في خطر انحسار التواصل المباشر بين الناس أمام اكتساح التواصل الإفتراضي والانغماس في عالم الانترنت بشكل لم يكن يتنبأ به أحد قبل بضعة سنوات فقط دون الرجوع إلى ما كان عليه أجدادنا. يكفي أن نلقي نظرة سريعة على ما يحدث في بيوتنا حين تجتمع العائلة للسهر حتى نتأكد من ذلك. قد لا نغالي حين نقول أن الكثير من الناس باتوا لا يحسون بالحاجة للتواصل الشفوي المباشر قدر إحساسهم بالحاجة لأدوات التواصل الافتراضي. لهذه المظاهر أسباب واضحة تتعلق بما يسميه البعض الثورة الرقمية التي عمت الكرة الأرضية لكن نتائجها السلبية تتجاوز ما يبدو للعيان وهي تحتاج إلى دراسة سوسيولوجية معمقة تستشرف ما ستصبح عليه المجتمعات لو تواصلت وترسخت أكثر هذه الظاهرة.

استعادة الدور الحيوي للحكاية

ولأن تيار التغيير هذا محفوف بمخاطر تنذر بتفكك العلاقات الأسرية وبتلاشي أساليب التواصل الاجتماعي التقليدية، كان لا بد أن تبرز بعض ردود الفعل المقاومة لهذا التيار في محاولة للحفاظ على ما كان عليه التواصل الاجتماعي من احتكاك مباشر مولد للحرارة الإنسانية. وفي هذا الإطار يتنزل انبعاث عديد الجمعيات والمهرجانات التي وجدت في فن الحكاية إحدى الوسائل القديمة الفاعلة في حقل التواصل الشفوي وهي تسعى لاستعادة الدور الحيوي الذي كانت تلعبه الحكاية أو الخرافة في الحياة الاجتماعية والثقافية ككل وفي تربية النشء على وجه الخصوص. وهذا ما دأبت عليه جمعية دنيا الحكاية بصفاقس منذ تأسيسها سنة 2012 بعد أن حددت هدفها المركزي: إعادة الاعتبار للحكاية والحكواتي ولدورهما في التربية والفن والحياة. ولبلوغ هذا الهدف قامت بتنظيم مئات العروض في فن الحكي في عديد الفضاءات والمدارس يقدمها حكواتيون محترفون وبعثت شبكة لنوادي الحكاية منتشرة في عديد المؤسسات التربوية في ولاية صفاقس بالتعاون والشراكة مع مندوبيتي التربية في الجهة.

وأشار إلى أن عدد النوادي بلغ هذه السنة العشرون وينشطها أسبوعيا مدرسون توفر لهم الجمعية تكوينا مختصا ليعملوا على صقل مواهب مئات الأطفال في فن الحكي يؤثثون، إلى جانب الحكواتيين المحترفين، برنامج مهرجان الحكاية الذي تنظمه الجمعية سنويا بالشراكة مع مركز الفنون الدرامية والركحية ومندوبيتي التربية ومندوبية الشؤون الثقافية بصفاقس منذ 7 سنوات وهي تستعد هذه السنة لتنظيم دورة استثنائية ستجعله يضاهي كبرى مهرجانات الحكاية في العالم باستضافة أكثر من 20 حكواتيا محترفا من تونس و من الخارج.واغراءات الحداثة المغشوشة ويضيف معطر أن التيار الخطير الثاني والدي تساهم الجمعية في مقاومته يتمثل في الانصياع إلى المخلفات السلبية للعولمة وإغراءات الحداثة المغشوشة بشكل أصبح يهدد الذاكرة الجماعية لكل شعب وتراثه الشفوي المخزون في الحكايات والخرافات الشعبية. لقد أصبح جيل اليوم يتابع بشغف آخر المستجدات التكنولوجالية ويتركز اهتمامه على ما يقع ترويجه على وسائل الاتصال الحديثة في سوق مواد سريعة الاستهلاك لا تعترف بحدود جغرافية أو أخلاقية أو حضارية، ضاربا عرض الحائط مقومات الانتماء الجغرافي والتاريخي والتواصل مع تراث الأجداد. فكم من أبناء هذا الجيل يعرف قصص ألف ليلة وليلة أو حكايات الجازية الهلالية أو ملاحم قرطاجنة قدر اطلاعه على آخر الموضات والشائعات والشطحات الإعلامية المدوية والإنتاجات “الفنية” الساقطة التي يغدقها عليه اليوتوب؟ قد يقول البعض أن هذا التيار الجارف لا مرد له في القرن الواحد والعشرين وأن العولمة بما تعنيه من كسر للهويات الخصوصية للشعوب هي قدر محتوم، لكن للقائمين على جمعية دنيا الحكاية وعلى عديد المنظمات المشابهة في العالم رأي آخر. هم اختاروا أن لا يستسلموا لهذا القدر ويسعون جاهدين لإحياء الذاكرة الشعبية والنبش في التراث المخزون في روائع الحكايات التي جاد بها الأجداد لتصل إلى أسماع الأحفاد يقدمها لهم فنانو الحكي فينهلوا منها العبرة والموعظة والطرفة وتنمي لديهم الشعور بالانتماء إلى حضارة وتاريخ.

وحول ما تعتزم الجمعية القيام به في هذا السياق أفاد أن الجمعية ستنظم ندوة علمية في شهر فيفري القادم استدعت لها نخبة من المفكرين والمختصين في التراث الشفوي ليطرحوا على المثقفين في الجهة إجاباتهم على السؤال: “ماذا بقي للحكاية أن تقول؟”

معظلة العزوف عن المطالعة

هذا وأكد الأستاذ ان العزوف على المطالعة هو التيار الثالث الذي تحاول جمعية دنيا الحكاية التجديف ضده. وبما أنه أصبح معلوما أن عدد من يطالع كتابا واحدا في السنة في تونس وفي العالم العربي عموما يمثل نسبة ضئيلة جدا منذ زمان وهي تزداد ضآلة سنة بعد سنة رغم كل المحاولات المتكررة في الوسط التربوي لترغيب الطفل على المطالعة باستعمال وسائل ومناهج تأكدت قلة نجاعتها. ارتأت جمعية دنيا الحكاية أن تواجه هذا العزوف بوسيلة أخرى نابعة من ميولات الطفل الطبيعية فهو ميال بطبعه لسماع حكايات تتماهى مع خياله الخصب خاصة حين يرويها له من يتقن فن الحكي – كالجدة مثلا- لكن أطفال اليوم على خلاف أطفال الأمس أصبحوا يفتقدون ذلك ويتركون لقمة صائغة لما تغدقه عليهم الوسائل الالكترونية الحديثة من العاب وفيديوات تفعل فيهم فعلها و تزيد من إبعادهم على الكتاب. لقد اختارت جمعية دنيا الحكاية أن تكون “تنمية الميول القرائية لدى الطفل عن طريق الحكاية” أحد أهدافها وتعمل على توفير أكثر ما يمكن من الفرص لأطفال المدارس ورياض الأطفال للقاء حكواتيين محترفين يروون لهم أجمل الحكايات وينهلون منها الحكم والعبر فتنمي لديهم الرغبة في اكتشاف المزيد عن طريق المطالعة. زيارات فناني الحكاية للمدارس في مدينة صفاقس وأريافها لا تنقطع على مدار السنة في برنامج الجمعية وتتكثف خلال أيام المهرجان الذي سيحتوي برنامج دورته القادمة زيارة حوالي 50 مدرسة سيجوبها فنانو الحكاية من تونس وفلسطين واليمن والجزائر ولبنان والمغرب والأردن وفرنسا و بلجيكا.

أما التيار الرابع الذي تجدف ضده هذه الجمعية باقتدار فهو ما نشاهده اليوم من انحسار للأنشطة الثقافية في الحياة المدرسية أمام تفشي ظاهرة العنف المدرسي والنزوع إلى تحصيل أفضل المعدلات بكل السبل – وأولها الدروس الخصوصية – بقطع النظر عن التحصيل المعرفي والثقافي. وقد انعكس ذلك على النشاط الثقافي في المؤسسات التربوية الذي يكاد ينحصر في عدد ضئيل من النوادي رغم كل الجهود التي يبذلها المشرفون على هذا النشاط. إيمانا منها بأن المدرسة هي أيضا فضاء حيوي للإبداع وليست فقط للدراسة تساهم الجمعية في تنشيط الحياة المدرسية ثقافيا عبر نوادي الحكاية المنتشرة في عديد المؤسسات التربوية في مدينة صفاقس وأريافها. ينشط هذه النوادي ثلة من المدرسين تقوم الجمعية على تكوينهم بصفة دورية على يد مختصين في فن الحكي وعلم النفس التربوي وتنشيط المجموعات وعلى مرافقتهم داخل نواديهم وخلق فرص التواصل والتفاعل بين براعم الحكواتيين الهواة والحكواتيين المحترفين. أجواء منعشة ومواهب واعدة تنمو وتتعزز داخل كل ناد بلا انقطاع في أواخر كل أسبوع في انتظار موعد المهرجان القادم في أفريل 2019.

فيصل الرقيق

قد يعجبك ايضا