المناضل الحقوقي فتحي الهمّامي ينصف صفاقس في آخر إصدارته
صدر مؤخرا عن دار (نيرفانا) للنشر كتاب بعنوان ” صفاقس الحقوقيّة : تحدّيات وإنجازات ـ 1978 ـ 2010 ” للمناضل الحقوقي والسياسي فتحي الهمّامي يتكون من 300 صفحة أو يزيد أخرجته دار النشر إخراجا أنيقا.
ولا شكّ عندي أنّ قارئ هذا الكتاب سيجده مصنّفا حقوفيّا فريدا من دون مجاملة أو مبالغة لسببين اثنين ، أوّلهما أنّه باكورة إنتاج تاريخي يخصّ جهة صفاقس من الناحية الحقوقية ، وثانيهما أنّ صاحبه نزع فيه إلى تناول مختلف القضايا الحقوقية وإن ببعض التفاوت بين الأقسام توثيقا وتأريخا ومتابعة للوقائع والأحداث مع لفتات تقويميّة للنجاحات والإخفاقات في الحركة الحقوقية جهويّا ومركزيّا.
وصاحب هذا المصنّف لا يدّعي الطمع في إنجاز بحث تاريخي أكاديمي يخضع لصرامة المقتضيات العلميّة الدقيقة ، ولكنّه مع ذلك حرص على الموضوعيّة حرصا شديدا في عرض الأحداث والوقائع في مختلف المجالات التي تناولها بالتوثيق أو التأريخ أو التقويم معتمدا في كلّ ما أورده من معطيات على أرشيف ثريّ وعلى شهادات موثّقة وأمينة وعلى آراء شخصيات علمية يوثق بعلمها ويُطمأنّ إلى مواقفها.
اعتنى المؤلّف بالحوادث التاريخية التي وقعت بين سنتي 1978 و2010 وهو يشتقّ منها القضايا التي كانت تعتمل في جنبات المجتمع التونسي عامّة وفي صفاقس على وجه الخصوص ، فتعرّض بإسهاب غير مملّ إلى صدامات الاتحاد العام التونسي للشغل مع نظام الحكم وإلى الانتفاضات الاجتماعية وانعكاساتها السلبية على الجمعيّات المدنية مثلما أثار قضية الحقوق الفردية والجماعية المأزومة التي أدّت إلى تأسيس فرع للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بصفاقس في 4 أوت 1978 ، وإلى الحقوق البيئية المنتهكة التي كانت داعيا إلى تأسيس ” جمعيّة المحافظة على الطبيعة والبيئة ” مثلما وقف وقفات مهمّة عند بعض المعضلات القانونية التي كانت سببا في بعث بعض الجمعيات والتنسيقيات المختصّة ، دون أن يغفل عن الوضع الإعلامي بالجهة ومدى تفاعله مع الحركة الحقوقية إيجابا وسلبا.
عالج فتحي الهمّامي القضايا الحقوقية منفردة عن بعضها تارة وعالجها تارة أخرى في علاقة جدليّة بين الفرع الجهوي للرابطة والهيأة المديرة في المركز ، فجعل المواقف يُجلي بعضها بعضا وخاصّة في القضايا النقابية التي فرّغ لها المؤلف الكثير من اهتمامه مثلما ظهر ذلك في المؤتمرات الوطنية للرابطة تنظيما وتنافسا كما ظهر في بعض القضايا الخلافية مثل قضية استقلالية الرابطة عن الأحزاب السياسية وعن السلطة الحاكمة خاصّة.
توخّى الكاتب في هذا العمل منهجيّة بسيطة، واضحة الأركان، قريبة المأخذ ، قوامها التبويب والتصنيف والترتيب ، تيسيرا على القارئ من جهة وحرصا على الشمول من جهة ثانية ، في لغة ميسورة لا تخلو من العبارة الإنشائية التي تدلّ على مدى تفاعل المؤلّف مع الحدث الذي يكون بصدده إذ لم تغب عنه وهو يؤرّخ للحركة الحقوقية صفة المناضل المشارك في بناء هذه الحركة من قريب أو من بعيد.
والذي سيلفت القارئ في هذا العمل دون ريب هو ميل صاحبه إلى خلق الباحث النزيه ، ذاك الخلق الذي يعترف بالجميل لصاحب الجميل وينأى بالإنسان عن الجحود والغضّ من حقّ الغير ، فتراه يترجم لمختلف الشخصيات القيادية التي أسهمت في بناء الحركة الحقوقية ويعرّف بخصال كلّ منها فكرا ونضالا ميدانيا وتضحية لا يميّز في ذلك رجلا من امرأة ولا كبيرا من صغير ، مثلما حرص على إنصاف الذين لحقهم أذى السلطة الحاكمة فدوّن شكاواهم وعرّف بمآسيهم في تعاطف تامّ معهم في معاناتهم.
إنّ هذا الجهد الذي بذله الأخ فتحي الهمّامي يُعدّ جهدا متميّزا في نظرنا لأنّه جمع فيه ما ظلّ مفرّقا بين الأرشيف والصحف والدوريات ممّا لا تقدر يد القارئ العادي على إدراكه ، ولأنّه ارتقى فيه من الذاكرة الفرديّة إلى الذاكرة الجماعية ، وتجاوز فيه حيز المشافهة إلى حيز المكتوب فأدخله بذلك إلى منطقة التاريخ الذي يصبح معه هذا الكتاب سلطة ومرجعا في الغرض ، إذ لا تاريخ يوثق به إلا إذا كان موثّقا بالسند والحجة وهذه صفة لم يعدمها هذا الكتاب ، فكان هذا المنتج الفكري وثيقة قيّمة مفيدة سدّت نقصا كبيرا في تاريخ الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والحركة الحقوقية بعامّة . فلصاحب التأليف جزيل الشكر وعليه الثناء كلّه.
إبراهيم بن صالح: رئيس فرع صفاقس الجنوبية للرابطة سابقا
عضو الهيأة المديرة للرابطة سابقا – 9 أكتوبر 2025