“بازار خماخم للصناعات التقليدية” بمدينة صفاقس العتيقة .. يصارع من أجل البقاء

بازار العربي خماخم للصناعات التقليدية - صفاقس - المدينة العتيقة
بازار العربي خماخم للصناعات التقليدية – صفاقس – المدينة العتيقة

إن هممت بزيارة محل خماخم لاقتناء أي من منتوجاته التقليدية كما تتوق نفوس أغلب زائري المدينة العتيقة بصفاقس، فلا بد أن تدلف من بوابتها التاريخية “باب الديوان” لكنك ستجد نفسك مجبرا على تخطي حواجز الانتصاب الفوضوي ومنضدات أدباش”الفريب” (الملابس المستعملة) والمنسوجات الصينية الغازية لكل الممرات والمسالك والمخترقة حتى لمسامعك من خلال هتافات الباعة وأصواتهم القوية التي تملأ المكان.
تشعر بمجرد أن تنجح في مهمة تجاوز الحواجز بأنك تنتقل في ثوان من عالم إلى عالم ثان، لا رابط بينهما فالأول دخيل سافر يتطاول في بنيان المدينة العتيقة بلا احتشام والآخر أصيل خالص يجتهد في أن يتجمل لكن على استحياء… تدخل “البازار” فتمضي رويدا رويدا في رحلة مع الذاكرة والتاريخ وتشعر بأن كل ركن من هذا المحل الأنيق المتكون من ثلاثة طوابق تنتهي إلى سطح محاذ لشرفات السور يشرف على جزء كبير من المدينة العتيقة وينبش عن فصول من تاريخها وتقاليد أهاليها على امتداد زهاء ثلاثة عشر قرنا.
ما يزال “بازار خماخم للصناعات التقليدية” المنتصب منذ أربعينات القرن الماضي في قلب “باب الديوان” بمدينة صفاقس العتيقة يقف صامدا في وجه المصاعب والمخاطر التي صارت تهدد بجدية اليوم أنشطة حرفية تقليدية في وجودها فتضع في مواجهة الاندثار فصولا من تاريخ المدينة التي يعود إنشاؤها إلى 1286 سنة خلت… سنون تروي تفاصيلها هذه المهن والحرف النابضة تاريخا وحضارة.
طفق العربي خماخم صاحب “البازار” يعدد في نبرة تنطوي على حسرة وتوجس الاعتداءات المتراكمة على الصناعات التقليدية التي كابد المتعاقبون على تسيير المحل على امتداد عقود طويلة في مجابهتها فيقول: “ليس أخطر على وجود المهن القديمة من عزوف الشباب عنها والإهمال المتعمد من الهياكل الرسمية الثقافية والبلدية والسياحية التي همشت القطاع وتراجعت به أشواطا إلى الوراء”.
يواصل محدثنا في تعداد الخطوب فيشير إلى تراجع إقبال السياح على المدينة العتيقة مقابل زحف الانتصاب الفوضوي الذي صارت منضداته “توشح” باب الديوان من كل الاتجاهات فتكتسح مجالات هي في الأصل مجالات الصناعات التقليدية دون سواها وتستقطب حرفاء هم في واقع الأمر حرفاء “النساج” و”نجار الجبوز” (صنع الآلات الفلاحية التقليدية من خشب الزيتون) و”الشواشي” و”البلاغجي” و”التارزي” و”الصائغي” و”القصادري” (تحويل القصدير) وغيرهم من الحرفيين…

رحلة الذاكرة والتاريخ عبر إبداعات الحرفيين
ينتابك إحساس بالراحة وبالاحتماء في حصن تاريخي يضم بين جدرانه فيضا من إبداعات حرفيي صفاقس وكل حرفيي تونس من شمالها إلى جنوبها في مجالات مهنية قديمة متنوعة تكاد لا تحصى، فالمحل مزارمرهف اختار منذ نشأته أن يعرض كل المنتوجات التقليدية التونسية وألا يقتصر على منتوجات حرفيي صفاقس من أجل الدفاع على وجود قطاع بأكمله كما يحرص على تأكيد ذلك العربي خماخم.
تتجول في أروقة المحل فتجد نفسك محاطا بفسيفساء من المنتوجات المختلفة ذات الجمال الأخاذ والمعروضة بعناية فائقة وحس مرهف في التزويق: من الجبة إلى البرنس إلى “الكدرون” والقفطان، إلى قطع الفخار والنحاس والفضة إلى الآلات الموسيقية الشعبية (مزمار المزود والطبل والدف “البندير”) إلى التحف المصنوعة بألياف العرجون والصمار وبخشب الزيتون إحدى المواد الأساسية التي يختص بتحويلها حرفيو صفاقس قبل غيرهم من حرفيي باقي الجهات بفضل ما تتيحه لهم غابات الزيتون المنتصبة غير بعيد وتزودهم به شجرتها المباركة حتى بعد موتها.
“مرحبا سيدي، تفضل بالدخول، فقط الق نظرة على منتوجاتنا، يمكنك أن تكتشف عندنا المزيد في الطوابق العلوية”، بهذه الكلمات استقبل الشاب عمر بن صاحب المحل أحد الزبائن المارين عله يظفر ببيع “استفتاح” في هذا الصباح الذي تسللت شعاع شمسه إلى باب “البازار” مبشرة بيوم جميل.
“الاستفتاح” كلمة مفتاح في قاموس تجار المدينة العتيقة ووجدانهم ومعتقداتهم لأن عملية بيع في تباشير الصباح هي بالنسبة لهم بمثابة قطرة تأذن بانهمار غيث الربح الوافر.
لكن التجارة الرابحة في مدينة صفاقس صارت في السنوات الأخيرة أمرا صعب المنال في رأي العربي خماخم الذي يعتقد راسخا أن عملية التبليط التي عرفتها ساحة باب الديوان في التسعينات من القرن الماضي بقرار من البلدية حكمت على الأنشطة التجارية المعروفة بها المدينة العتيقة بالكساد والتراجع المتواصل إلى اليوم.

قوافل السياح إلى غير رجعة
“عملية تبليط هذه الساحة طمست الطريق الذي كان يلامس باب الديوان ورحلت في غير رجعة قوافل السياح التي كان يجلبها هذا الطريق وكذلك قوافل الرحلات الداخلية والدراسية… حتى عربات “الكاليس” (عربات سياحية يجرها حصان أو حصانان) التي كانت توشح المكان وتضفي عليه طابعا سياحيا مميزا احتجبت تماما”. هكذا عبر صاحب “البازار” بمرارة عن تغير الوضعية رأسا على عقب في هذا المكان المميز الذي يعبره يوميا آلاف المارة في رواح وغدو بين “البلاد العربي” والمدينة الإفرنجية المعروفة بباب البحر.
لا يختزن العربي خماحم شعور الحسرة على المجد المفقود لوحده فعدواه تسللت أيضا إلى ابنه الشاب عمر الذي جلبه أبوه إلى حضيرة “البازار” ليعده إلى تسلم مشعل هذه المهنة العريقة المقترن بها اسم العائلة ومجدها رغم الصعوبات.
همس عمر إلينا وهو يرافقنا إلى الطوابق العلوية للمحل حيث ورشة التغليف والجلد التي يشرف عليها بنفسه وتزود المحل بمنتوجات مختلفة مثل علب الهدايا و”البلغة” والحذاء التقليدي قائلا ” سيأتي يوم لا نجد فيه من يصنع هذه التحف الرائعة”. كان عمر يخاطبنا ويده اليمنى تمتد في حركة نشيطة لتشير إلى سلة جميلة وفراش رضيع صنع كلاهما من ألياف العراجين وقد وشحا الجدار الموازي لمدرج إحدى قاعات العرض العلوية بالسطح المطل على النسيج العمراني المتراص للمدينة العتيقة. يمتد بصرك من أعلى هذا السطح فيأخذك جمال المساكن القديمة ومآذن المدينة وأسواقها وأزقتها التي لا تهدأ…

محمد سامي الكشو ـ وكالة تونس افريقيا للانباء – مكتب صفاقس

قد يعجبك ايضا