التاكسي في صفاقس يستصرخ من ينقذه .. بقلم أحمد البهلول

أحمد البهلول
أحمد البهلول

من منا لا يحتاج يوميا أو مناسباتيا لسيارة أجرة حتى يقضي شؤونه…إما لغياب وسيلة نقل خاصة أو تفاديا للسياقة و جنون الطريق…تجدنا نطيل الانتظار حتى يأتي ذلك السائق الذي نجهله و ربما لم نلتقه يوما، ليوصلنا حيث شئنا…فتضطرنا المسافات الطويلة و زحمة الشوارع إلى تبادل الأحاديث و الأخبار، و ربّما تنشأ صداقات و معاملات لا علاقة لها بالسيارة الصفراء…كلّ هذه الأريحية في الحديث كانت نتاجا لحالة الأمان التي نجدها في الجلوس إلى جانب أو وراء ذلك السائق الذي و إن كنّا نجهل هويّته…فإننا مطمئنون إلى جدّيته، و أخلاقه و احترامه لعمله…فلا يُخشى منه على صغير و لا مسنّ و لا فتاة، مهما تقدّم الوقت أو تأخر. هكذا كان حال السيارة الصفراء قبل هجوم الجراد عليها… وهكذا كانت صورتها وصورة ذلك الرجل المحترم الجالس وراء مقودها…قبل أن تجتاحها رداءة مؤذنة بالخراب.
منذ سنة 2011، أصبح الجميع يطالب بالتشغيل الفوري، كلّ يعرض شهادته و صنعته على المسؤول…و من لم تكن له شهادة غير رخصة سياقته، فإن رخصة التاكسي كانت مطلبه…مئات ممن كنا لا نراهم إلا ليلا…و لا نسمع عنهم إلا سوء…صرنا نراهم نهارا وراء مقاود سيارات الأجرة يعبثون بأرواح و أعصاب الناس…و بقينا لا نسمع منهم إلا فحشا و سوقيّة، في المحطات و في الطريق و أحيانا داخل سيارات الأجرة…تغيّر المشهد و تحوّل بشكل صادم…في غفلة السائق القديم و الحريف و المسؤول…احتلّ هؤولاء المنحرفون الجدد مقاعد السياقة…لا ندري كيف و لماذا أتوْا…و من سمح لهم بأن يغتصبوا قطاعا في عراقة و أصالة و حساسية قطاع التاكسي. سأعرض ذكرا لا حصرا ، بعضا من المشاهد التي رغم بذاءتها و سقوطها، صارت روتينا يوميا، يتجرّعه الحريف و لا يكاد يسيغه…إلا أنّي لا أبرح مكرّرا و مشدّدا أنّ ذلك لا يسيء للقطاع و كباره و شرفائه و ما أكثرهم و أجلّهم في قلوبنا جميعا…و أنّ من أقصدهم هم قلّة أرجو أن يتطهّر القطاع منهم على عجل.
سأبدأ الحديث منذ دخولك لمحطّة التاكسي أو ما يعبّر عنه بتاكسي البلاصة…تلك “التقليعة” التي بدأت نعمة و تحوّلت نقمة على من اضطرّوا إليها…لا تجد بالمحطّة واحدا من قدماء المهنة راكنا سيارته هناك…و إن سألت أحدهم عن السبب سيجيبك أنّ السنين الطوال التي قضاها في كسب قوته و خدمة الناس وراء مقوده، لا يجعلانه قادرا على تحمّل قلة الحياء و “تطييح القدر”…يعترضك هؤولاء العناترة في باب المحطّة حيث يتجمّعون للتندّر و تبادل المزاح بألفاظ سوقية و أصواتهم تلعلع في كلّ أرجاء المحطّة دون حياء أو احترام لكبير أو صغير أو امرأة…و إذا لمحوا راكبا، يبدؤون في تقاذفه كلّ إلى سيّارته…و إن كانت فتاة ذات جمال ، فيبدأ التغامز و التلامز، و قد يضطرّ أحد هؤولاء الوقحين لتغيير وجهته و خطّ سيّارته حتى يظفر بهذه الراكبة معه. تعاملهم مع الوقت فيه كثير من المزاجية و العبثية و الارتجال…فإذا اكتظت المحطّة بالركّاب، فستكون محظوظا إن قبل أحدهم أن يوصلك مسافة 4 كيلومترات…حرصهم على القيام بأكبر عدد ممكن من “الكورسات” لا يجعلهم يكترثون لذلك الشيخ الكبير الذي لا يقوى على الوقوف و لا يستطيع سداد أجرة تاكسي خاص لوحده…و لا لتلك الفتاة التي أنهت حصة دراستها أو عملها المسائية و تأخر الوقت عليها و لم تعد تحس بالأمان…و لا لذلك العامل البسيط الذي يحمل كيسه أو قفته، و قد أعياه تعب يوم طويل…كلّ ذلك هامش و تفاصيل، أمام دينار إضافي أو ديناران..أما التعريفة، فحدّث ولا حرج…تصبح مضاعفة حسب مزاج هؤولاء السوّاقين…إن كان القانون يضبطها في حدود التاسعة، فقانونهم الشخصي يسمح بها في الثامنة أو حتى قبل ذلك…و إن لم يعجبك أيها الحريف، فلا تصدّق أنك الملك كما يقال…لا خيار لديك سوى أن تنتظر حافلة نائمة…أو أن تجرب رياضة المشي على القدمين.
إليكم صورة أخرى من داخل سياراتهم…الموسيقى صاخبة و عادة ما تكون “راب” بكلمات بذئية…يتمايل معها السائق منتشيا…و قد تحمله النشوة إلى سحب سيجارة يتظاهر بنفث دخانها عبر النافذة…و إن تأففت أو احتججت أيها الراكب، فمصيرك إما التجاهل أو طول اللسان…أما السياقة، فهي جنونية…مجاوزات ممنوعة و بهلوانية…لا فرق لديهم بين يمين الطريق ويساره…كلّ ذلك حتى يثبت أنه الأسرع و الأبرع و حتى “يستعرض” عضلات سيارته أمام زملائه في الطريق…قد يهتمّ لأي شيء إلا سلامة و حياة الراكبين معه. الحديث مع الحريف هي مسألة شرطية لدى هؤولاء المنحرفين…فهو لا يكون إلا في حالتين، الأولى إذا كان الحريف في مثل أعمارهم، فتكون المواضيع بين كرة و مغامرات و فهلوة كاذبة…أو أن تكون الحريفة شابة، فهناك يبدأ مسلسل المعاكسة…و تحضر كل المواضيع…قد يبدأ بسؤالها عن ذوقها الموسيقي…”حرصا على راحتها” حسب قوله…و ينتهي به عند التعبير على إعجابه بشكلها و لباسها…و ربما طلب رقم هاتفها أوحسابها على الفايسبوك…مستغلا في ذلك عدم قدرتها على مجاراته في الحديث و خجلها أو ربما خوفها منه…الذي يدفعها إلى الصمت أو الإجابة على مضض خوفا من سوء قد يصيبها.
طبعا، لست أكتب هذا حتى يقال أحسن أو أصاب فلان…و لا أكتب تشفيا أو تصفية للحسابات…أكتب حتى يتحرك كل مسؤول من موقعه لإيقاف هذه المهازل في حق القطاع و منسبيه الشرفاء….حتى يكون الأمن أكثر متابعة و يقظة في متابعة هؤولاء…و حتى تتنبه الولاية و اللجان المختصة و تتثبت في أهليتهم حتى تكون سلامة الناس بين أيديهم…و الأهمّ من هذا كله، أن يمارس الحريف مواطنته في التصدي لهؤولاء المنحرفين و التبليغ عنهم كلما انزلقوا…و عاش التاكسي ملكا و حقا و صديقا للسائق و الحرفاء .

بقلم أحمد البهلول

قد يعجبك ايضا