اخلالات رافقت الإضراب الإداري بالجامعة و كشفت المستور .. بقلم الأستاذ حاتم الكسيبي

وزارة التعليم العالي والبحث العلمي

الحمد لله أن لطف بجامعتنا فأُنقذت السنة الجامعية اتفاقات آخر لحظة بعد أن خيّم شبح السنة البيضاء و تهاوى الطلبة إلى مربّع الحنق والحزن واليأس والاكتئاب. الحمد لله أيضا أن عرف العاقلون ومن دون ذلك أنّ الحل يكمن أولا في عودة الدروس و إتمام الامتحانات المتعطلة و حلحلة الوضع الطلابي المتأزم في مراحله المتعددة سواء كانوا من الملتحقين بنظام امد أو بالنظام القديم الذي لا زالت تتّبعه دراسات الهندسة والطب. إنّ الإضراب الإداري الغريب عن التقاليد النقابية بالجامعة التونسية و الذي راهن على تعطيل كل امتحان بالمؤسسات الجامعية و نجح إلى حدّ ما، قد عمّر لأكثر من خمس شهور فخلط امتحانات السداسي الأول بالسداسي الثاني وأجّل عديد مشاريع ختم الدروس كما احدث اضطرابا علائقيا بين عديد الزملاء المنضوين تحت غطاء النقابتين القديمة والجديدة. أحدث هذا الإضراب إذن اخلالات بالجملة في الجامعة التونسية ما كانت لتقع لو تقيّدت كافة الأطراف بالواقع الديمقراطي والتعددية النقابية التي ثبّتها الدستور. لقد كشف هذا الإضراب في نفس الآن التعامل الفضّ الذي تجاوز حدود اللياقة والعصبية المفرطة التي يعيش عليها عدد من زملاء القطاع و تغذيها رحى الاختلاف النقابي كما تغذيها أيضا الميولات الأيديولوجية والسياسية التي تتأثر قطعا بواقع الانتقال الديمقراطي الهش الذي تعيشه بلادنا. لعل الاخلالات المرصودة والتي يجمع القاصي والداني عن استهجانها واستغراب ممارستها داخل أسوار الجامعة تنقسم حسب رأيي الى ثلاث أنواع:

1- الاخلالات الإدارية والمؤسساتية: وهي أخطر الاخلالات إذ انطلقت الوزارة منذ الوهلة الأولى في مراوغات مسترسلة و تجاهل للأشكال المستحدث والذي كان بالإمكان تطويقه منذ الشهر الأول من انطلاقه. الوزارة التزمت بمجاراة النقابة الأكثر تمثيلية و اكتفت بحوار الترضية مع نقابة إجابة المستحدثة. الوزارة غابت أيضا ساعة تأجيل امتحانات السداسي الأول وتركت المؤسسات تتكبّد المشاقّ لإيجاد حلول ظرفية قد تعقّد في بعض الأحيان الأمر و تزيد من سعير الإضراب. كما أنّ عددا من المنتخبين في المؤسسات من مجالس علمية و مديرين و عمداء ورؤساء جامعات التزموا بواقع الزمالة و الخشية من غضب الناخبين فتراقصوا بين أهواء البعض وبين أوامر الوزير فكان لذلك الخلط والجلط عواقب وخيمة و تأثيرا خطيرا على مجريات الإضراب فابتعد الحلّ و اقتيد الجميع الى زوبعة آخر السنة الجامعية. لا ننسى أيضا محاولة تجميد رواتب المضربين و انخراط إدارة المؤسسات و الجامعة في عملية ابتزاز رخيصة و تعمير مطبوعة العار ولم ينج من ذلك إلا القليلون الذين عرفوا كيف يجمعون بين الزمالة واحترام القانون.

2- الاخلالات الأخلاقوية: في هذا الجانب يتحمل الأساتذة المضربون وغير المضربين الجانب الأوفر من تأزم الخطاب وتدنيه الى مستوى العراك و المشاكسة وفي بعض الأحيان الى السب والشتم. ومن المؤسف أن أنقل بعض التعابير التي قرأتها على الفايسبوك والتي كتبها قطعا أستاذ جامعي يخاطب مدير مؤسسته فقال “الله لاباركلك يا لي خنت وعدك وبعثت أسامي زملائك في ……الله لا تربحك يا قواد يا صبايحي” لا حول ولا قوة الا بالله. وكتبت أحدى الزميلات كلاما غريبا ينمّ عن غياب نبل المهنة عن ذهنها اذ توعدت الطلبة فقالت : “سوف نضرب بأنواع أخرى من الاضطرابات سوف نصنع لهم أجيالا لا يفقهون من العلم شيئا” وقال آخر في لحظة يأس قاتلة للضمير المهني الحرّ” لنواصل الإضراب ولنعمل ما في وسعنا حتى تكون سنة بيضاء”. بينما عمد آخرون إلى مقارنة الجامعيين، أهل الحكمة والمعرفة، بالقضاة والأطباء فقال :” يضرب الأطباء من دون اعتبار للمرضى و يضرب القضاة من دون اعتبار للموقوفين ويضرب الجامعي دفاعا عن الجامعة فيأتي بعض الأغبياء من الجامعيين ويحدثك عن مصلحة الطالب وكأنّ طلبة 2018 هم أخر دفعة و الوظائف في انتظارهم “.

3- الاخلالات الاتصالية: نفس هذا الإضراب الإداري استعر وازداد لهيبه بالفايسبوك فتكوّنت المجموعات التي انضوى داخلها آلاف الزملاء فتبادلوا الآراء و المواقف و تناقلوا مجريات التفاوض والحوار مع الوزارة و مآلات انسداد الأفق و تأجيل الامتحانات مرة ومرّتين. كانت اذن حملات تجييش من قبل كافة الأطراف و كانت دعاوي للانسلاخ و مفردات ما كان الجامعي أن يستعملها لو تحلى بنزر من الرصانة إذ يصف البعض زملاءه بالحثالة و الصبايحية و القوادة. هنا عبّر الجامعي على موقفه دون أن يستعمل أداوته العلمية و معرفته البيداغوجية العميقة و تنسيبه للأحداث. هنا انحدر الجامعي الى مستوى العامة بل جاوزه في بعض الأحيان فكتب بالعامية الممزوجة بالفرنسية و بالفصحى المهشّمة و المهمّشة. هكذا طالعنا مثل هذه المقاطع الغريبة و التي أسوقها من باب الاستدلال لا أكثر ولا أقل. قال أحدهم في تعليق على مدير مؤسسته “حرض يحرض اش مش يصور…” و علّق آخر بلغة عربية لاتينية تستعمل الأرقام للدلالة عن حرف العين (3) والخاء (5) والحاء (7) فقال منتصرا لتمادي الإضراب ” Elli ystana 5ir meli ytmana ” . و كتب آخر منتقدا الوزير فقال بلهجة دارجة مستهجنة ” قلت زعمة س. خ. خذا ضربة على رأسه و رجع له شاهد العقل …أما صعيبة برشة الحكاية لهذا السبب عرفت ما يجّم يكون كان “. هكذا تخلّى الجامعي على فصاحة لغته العربية و عن لغة موليار و عن لغة شكسبير ثم عمد إلى خلطها و جلطها مع إضافة الأرقام فتدنى المستوى الاتصالي و بات يقاسم العامّة في منتدياتهم بل تجاوز خطابها في بعض ردهات الإضراب.

هل يستفيق الجامعي و يقف وقفة تأمل و تبصر فيبحث عن أثر هذا التحرك الاحتجاجي المستحدث وما أصاب الزملاء من انحدار على المستوى العلائقي و ما أفقدهم من حيّز النبالة تجاه طالبي العلم. الجامعة أضحت مهددة في أي وقت بمثل هذه المتاهة النضالية التي تفقدها البوصلة و تتيه بمستقبل الشباب فتنحدر سمعة التعليم العالي في تونس الى آخر السلّم الترتيبي للجامعات في العالم.

الأستاذ حاتم الكسيبي، قسم التكنولوجيا، المعهد التحضيري للدراسات الهندسية بصفاقس.

قد يعجبك ايضا