“صالون صفاقس السّنوي للفنون”.. عودة من أجل تكريس نواة إبداعيّة خلاّقة بالمدينة : بقلم د. إيمان طهّاري

صالون صفاقس السّنوي للفنون 2017 - حبات القرنفل
صالون صفاقس السّنوي للفنون 2017 – حبات القرنفل

د. إيمان طهّاري

“صالون صفاقس السّنوي للفنون”: مبادرة مؤسّساتيّة بدرجة أولى

رغم عودته الـمُتأخّرة في الزّمن مقارنة بحركيّة النّشاطات الفنيّة الوطنيّة المتعدّدة والمختلفة في الأزمنة والأمكنة، وقناعة من روّاد الحركة الفنيّة بالمدينة بضرورة الالتحاق بالرّكب الحضاري الفنّي وبوجوب تشكيل منظومة جماليّة محلّية متميّزة ومتفرّدة تمرّر قناعات ذاتيّة مجدّدة تجمع بين الفكرة والممارسة، برز “صالون صفاقس السّنوي للفنون” في نسخة جديدة اكتست بحلّة بهيّة شعارها الانفتاح الفنّي والفكري وقوامها التّمازج والتّلاقح بين المبدعين التشكيليين، على اختلاف مجالات ممارساتهم الفنيّة وتوجّهاتهم الفكريّة والإيديولوجيّة.

هي بمثابة مناسبة احتفاليّة، تزامنت مع حدث إتمام تهيئة فضاء دار الفنون بصفاقس، الذّي عكست فيها جملة من الفعاليّات وفي خضمّها تظاهرة “صفاقس عاصمة للثّقافة العربيّة” الذّي عرفته المدينة مؤخّرا، اهتماما بالغا من قبل وزارة الثّقافة وتحت إشراف المندوبيّة الجهويّة بصفاقس، بالفنون والثّقافة وبالمجال التّشكيلي على وجه التّحديد. وهو بالتّالي، واقع قد عكس اهتماما مؤسّساتيا بالفنون البصريّة التي جُعلت أولويّة من بين الأولويّات الثقافيّة، في كنف صالون سنوي مثّل بادرة من بين البوادر المحليّة المتعدّدة التي سعت إلى النهوض بالفنون البصرية في مدينة صفاقس، عبر عمل جادّ على استقطاب الفنانين والنقاد والناشطين في مجال الفنون التشكيليّة وعلى استثمار المنتجات الإبداعية المتنوّعة، الوطنيّة والعربيّة والعالميّة والنّظر فيها وتطويرها، من خلال دعمها ماديّا ومعنويا والتعريف بها محليّا.

استقطب “صالون صفاقس السّنوي للفنون” كمّا هائلا من المنتجات الفنيّة البصريّة والنظريّة، في ظلّ برنامج ثقافيّ عمل على تفعيل الحراك التّشكيلي في المجتمع التّونسي عامّة، وفي مدينة صفاقس خاصّة، التي تحتاج إلى مثل هذه التّظاهرات في ظلّ نقص مبادرات مؤسّسات الدّولة في هذا الصّدد والكسل التشكيلي الذي تشهده هذه المنطقة مقارنة ببعض المدن المحليّة الأخرى أو ببعض مناطق البلدان العربيّة والأجنبيّة التي كانت محلّ استقطاب عديد أكاديمييها وناشطيها وتشكيلييها، اللذّين وجدوا فيها ضالّتهم وسبيلهم للإنتاج الإبداعي والفكري. ومن ثمّة، عكست هذه التّظاهرة مجهودات مؤسّساتيّة محليّة استعانت بخبرات ناشطين ومثقّفين وأكاديميين، من أجل خلق فرص فنيّة جديدة تشمل الفنان وإنتاجه الإبداعي، عبر برامج أساسية شغلت فيها صيغ الندوات على غرار المعرض التشكيليّ مكانة وأولويّة، قد أثرتها الجوائز الماديّة القيّمة التي خلقت جوّا من الدّيناميكيّة المحفّزة والدّاعمة للإنتاجيّة وللسّيرورة الإبداعيّة.

يعدّ “صالون صفاقس السنوي للفنون” حسب نشاطاته المختلفة التي تبنّاها، تطبيقيّة تجلّت معالمها أو نظريّة، مركزا للولوج إلى مجالات المعرفة والإبداع بأبعاده المختلفة. وهو ما يتماشى مع هاجسه الأساسي الذّي حاولت من خلاله المؤسّسة الرّاعية، وضع الطّاقات الإبداعية وإنتاجات الفنون البصرية على محكّ البحث والتجريب، فتفتح مجالات الحوار والنقاش على مصراعيها بين كافة الهويّات الثقافية، بما يعكس حالة من الامتداد الفكري الذي يتجاوز حدودا وأنماط تعبيريّة معيّنة، ليشمل أطياف مختلفة المواقف والرؤى والإيديولوجيات. فلم يكتف مشروع “الصّالون” الثقافي بالوقوف عند الحدث الجمالي فقط، بقدر ما ينشد التأثير البالغ على الفنون التشكيليّة المحليّة عامّة ودفع مسيرتها. وهو هدفه الأوّلي على الرغم من شساعة موضوعه الافتتاحي وعدم تسييج رقعته برؤية مفهوميّة تسير وفقها المشاركات، لتكون التظاهرة في سياقها العام احتفاليّة تعريفيّة تنتصر إلى العودة بعد الغياب، وهذا ما أكّدته التّقاطعات المفاهيميّة بين السجلاّت التّطبيقيّة للممارسات التشكيليّة المتعدّدة.

شمل “صالون صفاقس السّنوي للفنون” ندوة فكريّة كانت عبارة على لقاء علميّ ونقدي، بحث في معضلة من بين المعضلات الفنية التشكيلية المطروحة في توجّهات بعض الأعمال المعروضة في قاعة العرض. لقاء ارتدى ثوب يوم دراسي تمحور حول علاقة الفن بالبيئة، ليفسح المجال أمام المشاركين من نقاد وباحثين وتشكيليين وإعلاميين وغيرهم ممن اهتمّوا بالوقائع التشكيليّة للصالون، للإدلاء بمعارفهم وآرائهم حول هذه المسألة الفنيّة. وقد حرصت الهيئة المشرفة على توثيق ما أنجز نظريّا وتطبيقيّا كذلك، ضمن برامجها ومساعيها الرّامية إلى تأسيس نواة فنيّة مكتملة ومتكاملة على جميع المستويات.

تستوقفنا في هذا الشأن نقاط أساسيّة لعلّ من أبرزها المعايير التي اعتمدها “الصّالون” في برمجة وتنظيم هذه التّظاهرة، خاصّة وأنّنا إزاء بحث جمع بين الممارسة التّطبيقيّة والنّظريّة النقديّة، يرنو إشعاعا محلّيا وعربيّا وعالميّا يسير على خطى ونجاحات بعض المؤسّسات العربيّة الرّاعية للفنون التّشكيليّة، وفي ذلك نموذج إمارة “الشّارقة” عبر “مؤسّسة الشّارقة للبحث النّقدي” على سبيل المثال. هي مسؤوليّة كبرى وعمل شاق يتطلّب قدرا كبيرا من الحذق والخبرة والمهارة، ذلك لأنّ مثل هذه التّظاهرات قد أصبحت وسيلة من الوسائل التي تعتمدها المؤسسات والمنظّمات المحليّة والدّولية لتبادل الأفكار والمعلومات بين الثقافات ولطرح القضايا ومعالجة المشكلات والأزمات. ولعلّ في تزايد العمل بهذه الوسائط التعبيريّة في الميدان الفني على النّطاق المحليّ أو الإقليمي أو الدّولي، ما يشرّع القول بمركزيّة حضورها ودورها الرّيادي في التّأثير على الفن التّشكيلي العربي. ومن هنا ترتبط نجاعتها ونجاحاتها والتمكّن من أهدافها من عدمه، بذلك التخطيط وبمستوى التنظيم والإعداد والمتابعة من قبل المسؤولين. فلا يكفي أن تدعم الدّولة مثل هذه الأنشطة دعما مادياّ ومعنويا لكي تتحقّق الشرعيّة لوجودها على الساحة الثقافيّة الفنيّة، بقدر ما تكون وجاهة الاختيارات ورصانة الإعداد والبرمجة مقوّمات أساسيّة في ذلك، وهي مسؤوليّة الإدارة والمشرفين عليها.

على هذا النّحو، نقف عند الظروف العامّة التي تأسّس وفقها هذا الصالون، حتّى يتسنّى لنا تقييم مادّته البصريّة والنّظريّة والحكم على مضمونه بكلّ موضوعيّة وحياديّة ومنطقيّة. وهي مؤثّرات تتعلّق بالشكل من جهة في مستوى تنسيق الظروف العامة لاختيار اللّجان واختيار الأعمال أو تحديد الجوائز وغيرها من الضّوابط التّرتيبيّة، وبالجوهر من جهة ثانية في ما يتعلّق باختيار الموضوع النّظري المدروس و تحديد زمن البحث ونقصد بذلك المهلة الزمنيّة المحدّدة للكتابة في الموضوع وتسليمه للّجان، على غرار النّظر في المعاييـر والمقاييس المعتمدة من قبل هذه اللّجان المشرفة على الندوة (اليوم الدّراسي) لتقييم متن هذه الدراسات والحكم عليها بالقبول أو الرفض. فلا يمكن أن نجرّد وقائع “الصالون” من الظروف العامّة التي تبلور فيها، فهو سياق تنظيمي متكامل ومترابط لا تنفصل فيه النتائج المتمثّلة عن ظروف النشأة وتأسيس هذا المشروع الإبداعي، والذي سيكون له دورا مركزيّا في الحكم على قيمته من عدمها.

إنّ المتأمّل في الأشغال العامّة لـ”صالون صفاقس السّنوي للفنون” واختياراته الواضحة ومواضيعه المطروحة ولجان التحكيم فيه وإدارته التنظيميّة ككلّ، بالرّغم من عموميّة الطّرح التشكيلي وعدم تقييده بتوجّه مفهومي، كما ذكرنا سابقا، ما يعكس سعيا مؤسّساتّيا وفرديّا وحرصا وقدرة على التّسيير والتّنظيم لمثل هذه التّظاهرات التي سيكون لها صبغة متكرّرة ومتواصلة في الزّمن منذ الإعلان عن عودتها. إلاّ أنّ بعض الإجراءات والتدخّلات الإداريّة أو التنفيذيّة رغم مساعيها الجادّة في هذا الشأن، يمكن أن تحيد عن المسار المرجوّ سواء بصفة مقصودة أو غير مقصودة، خاصّة عندما يتقيّد الباحث بزمن عمل معيّن. هو حقّ تنظيميّ مشروع لا تتحمّل فيه المؤسّسة مسؤوليّة كبرى، وهي المنظّمة لمشروع عمل مضبوط في المكان والزّمان، لكن من شأنه أن يمسّ الجانبين النّظري والتّطبيقي، بأن يشوّش فكر الممارس والباحث الذي يمكن أن يتعجّل ويسرّع في عمله التّطبيقي أو النّظري في بوتقة هذه الظّروف الزّمنيّة المحدّدة، فيكرّس هذا المشهد اعتباطيّة التجربة التّطبيقيّة أو النظريّة كذلك. ومن ثمّة، يمكن أن يلتجئ إلى أعمال تشكيليّة قديمة وأن يكتفي بدراسة سابقة كانت له في هذا السياق المعرفي ويضعها بما يتماشى مع منهج البحث المقدّم، خاصّة عندما تكون المشاركة مرفوقة بجوائز ماديّة ومعنويّة قيّمة من شأنها أن تضيف علامات في سيرته الذّاتيّة. فلا يمكننا أن نتجاوز هذا البعد الثابت الحضور في التصوّرات الأولى لهذه التّظاهرة، الذي يمكن أن يسيطر فيها الجانب الذّاتي على الأمر وإن سار منهج البحث في البحث من أجل البحث، فما من شكّ أن تتجّه الذّات صوب هذه المغريات على نفاسة عديد البحوث ونجاعتها في تغطية مسائل عديدة من المسألة. وهي بعض المزالق التأسيسيّة التي من شأنها أن تحيد عن الموضوعيّة والشفافيّة، رغم المساعي التنظيميّة التي تحاول قدر الإمكان تجاوز كل شكل من أشكال التمييز والانتقاء.

في استفاقة الصّالون بعد سنوات لا بأس بها من الاحتجاب والغياب، ما يؤكّد حرصا في السّير بهذا المشروع الفنيّ وهذا الرّهان الثّقافي إلى أبعد الحدود. وهي خاصيّة بيّنتها الخطى الرّصينة والمبرمجة التي سار وفقها، وإن لازمته بعض التعثّرات العامّة. وهي على هذا النّحو، احتمالات وأطروحات يمكن أن نثبتها أو ننفيها بالرجوع إلى وقائع هذا الصّالون، عند معاينة المواد التّطبيقيّة المقدّمة في خضمّه والنّظر في مدى استجابة دراساته لمستلزمات الطّرح الفنّي، ساعتها ندرك مليّا مكانته وقيمته البصريّة والمعرفيّة.

ثراء مفاهيمي ميّز المعرض التّشكيلي “حبّات القرنفل”

تجلّى المعرض التّشكيلي “حبّات القرنقل” في سياق برزت فيه عديد التّجارب الفنيّة التي أعطت صورا متباينة للفعل في الحقل التّشكيلي، تحمل مفاهيم جماليّة ومرجعيّة مختلفة رغم تقاربها في أبعادها وأهدافها. وتعدّدت المشاريع التّعبيريّة في هذا المعرض، في نفَس حماسي عكس محاولة جادّة لبناء خصوصيات فنيّة، رسمت ملامح شخصيّة وطنيّة اتّخذت مسالك تعبيريّة ومفاهيميّة عديدة كان فيها التّراث مرجعا ثابت الحضور في عديد الأعمال التي انطلق من أصوله الأولى ثلّة من المبدعين، بسياقات يُعيدون فيها صياغة الرّموز من جديد متجاوزين ماهيّة الأشكال التّراثيّة الجاهزة، لتُبعث الحياة فيها بحلّة مغايرة تؤسّس لهويّة ذاتيّة قادرة على مجابهة سلطة التّأثيرات الغربيّة، عملا بمقولة “رشيدة التّريكي” في هذا الإطار: “أن نقبل ما نحن عليه وأن نُبدع ونُنتج وفق ما نحن عليه، هو ما يصنع قوّتنا وذلك ما يُخوّل لنا مجابهة تحدّيات الغزو والاجتياح التّي تهدّد هويّتنا، إنّه ثراء لشخصيّتنا وتقوية وليس عامل ضعف”.[1]

اتّخذ عديد التّشكيليين من التّراث المحلّي، مسارا جماليّا وسبيلا تعبيريّا، في محاولة لإثراء التّجربة التّشكيلية وتعميقها. وإن اتّخذت صبغة “فلكلوريّة” مشهديّة حكائيّة في بعض نماذجها، وتجريديّة هندسيّة أو رمزيّة دلاليّة وغيرها في سياقات أخرى، فقد حملت في طيّاتها إيديولوجيات مختلفة ذات مستويات متباينة ومتداخلة في التّصوّر والنّتاج التّشكيلي، تحكّمت فيها أساليب الذّوات وآداءاتها المتباينة شكلا ومضمونا. إنّها لمستويات قد تصعّد فيها الفعل متجاوزا حدود المرجع التّراثي، من خلال جملة من البحوث التصويريّة الأخرى التي وجدت في الأساليب التشكيليّة الغربيّة بتيّاراتها ومناهجها ومباحثها ومخزونها التمثيلي ضالّتها، لتحملنا كلّ تجربة منخرطة في هذا الاتّجاه إلى البحث عن المسار الفني المنطلق وأبعاده التشكيليّة والدّلالية التي كانت فيها الحداثة والمعاصرة عناوين رئيسيّة لها.

بين سياقات الكلاسيكية الجديدة والواقعيّة التي كان فيها الشّكل والتّعبير الخطّي محور الاهتمام التشكيلي، وبين تمثّلات الانطباعيّة وخصائص الفن الجديد ومقوّمات التّعبيريّة ومؤثّرات الوحشيّة وميزات التّكعيبيّة والمستقبليّة واللاّواقعيّة والتّجريديّة باختلاف خصائصها ومناهجها، غنائيّة أو هندسيّة أو اختصاريّة أو حروفيّة أو تحليليّة أو لا شكليّة وغيرها، وبين سياقات الفن المعاصر الذّي تمثّل من خلال حضور فن التّنصيبة و”البرفورمانس” وفن الفيديو الموثّق للمواضيع الزّائلة والعرضيّة التي أثبت حضورها كثابتة من ثوابت الفعل التشكيلي وتمثّلاته، تجلّت لغة بصريّة متداخلة التّمثيلات ومتعدّدة المستويات في بحث آمنت فيها الاختيارات بضرورة تعدّد الخيارات على مستوى المرجع والأساليب والتّقنيات والأداء التشكيلي عامّة. حيث كانت هذه المراجع التّشكيلية، بما تحمله من زخم في مستوى الإنتاجات، سبيلا في البحث عن كلّ مسار فني مميّز للصيغ الإبداعيّة، ما جعلنا في حيرة إبّان الوقوف عند كلّ تجربة من جملة التجارب المعروضة في أروقة فضاء العرض. حيرة تتبعها رغبة قويّة في قراءة منهجيّة، تسعى إلى تقديم محتوى شامل يأتي على أبرز خصائص التّجارب وسجلاّتها ويطرح تساؤلات تتعلّق أساسا بالأساليب والكيفيّات البنائيّة ومقاصدها التّعبيريّة. فكيف تأسّس الفعل التّشكيليّ في ظلّ كلّ تجربة نقف عندها؟ وأيّ واقع جماليّ تُخفيه الصّياغة المتجدّدة لهذا الفعل الفني في ظلّ الآليّات البنائيّة المختلفة؟ وكيف استطاع الفنان التشكيلي أن يُوفّق في دراسته الفنيّة بين عناصر ثابتة وأخرى متغيّرة في تجربة موحّدة؟ وأيّة إضافة يمكن أن تطرحها عناصره الجماليّة في خضمّ تأثيرات عديد المرجعيّات الفنيّة؟ هي استفهامات تدلّ على ذلك البعد المتجدّد في كلّ صيغة تعبيريّة، وعلى ثرائها الجمالي الذّي أثار فكر المتلقّي وحرّك سواكن البحث فيه. وهي جوانب تدلّ على قيمة إبداعيّة أفرزتها جديّة الممارسات التعبيريّة للذّوات المشاركة ساهمت في بلورتها مسؤوليّة اللّجان في انتقاءها وفرزها، رغبة في بعث صورة رصينة ومتكاملة ومميّزة للمعرض التشكيلي في إطار هذا الصّالون السّنوي، الذّي عبّرت فيه جملة هذه المساهمات الفنيّة، عن محاولات جادّة في الرقيّ بالبحث الفني التّشكيلي التّونسي وبتعابيره ومستوياته.

تركيز نواة إبداعيّة خلاّقة..

يأتي مشروع “صالون صفاقس السّنوي للفنون” في مقاربة جماليّة ساعية في مجملها إلى تركيز نواة فنيّة إبداعيّة خلاّقة بمدينة صفاقس، مواكبة للإنتاجات الفنيّة المتعدّدة الصّادرة عن عديد التشكيليين والباحثين في هذا المجال، في سياق تشرف عليه مؤسّسة من المؤسّسات الثّقافية التّابعة للدّولة ويسيّره ناشطون وأكاديميّون من الميدان الفني، عبر بحث شعاره الانفتاح على القيم الفنيّة المحليّة والعالميّة، بمعالجة تحديثيّة ذات صياغة تنشد التجدّد والتفرّد.

ولماّ نتحدّث عن تجربة مجالها التّحديث والتّجديد، فإنّ قولنا يقف عند جملة من الرؤى والتدخّلات والانفعالات المربكة لنظام الأشكال السّائدة والمألوفة، في سياق تتبلور فيه واقع الأعمال في حقائق جديدة تعانق تفاعلاتها واقعا فكريّا ومفهوميّا رحبا، بجماليّات مغايرة تتجاوز المعتاد لتحتفي بالمتجدّد، في مغامرة بحث متواصلة لا يتعالى فيها التّشكيل المادّي عن الفكر العقلاني المجرّد. وإن غابت في هذا الصّالون بعض الحقائق والمستويات المتعلّقة بالمستويات التنظيميّة أو المعرفيّة وغيرها، فقد سجّلت في جملتها قيما في غاية الإبداع أثَّرت وأثْرت المدوّنة الفنيّة التشكيليّة التّونسيّة، بما حملته من نزع جمالي ومفاهيمي عميق. فانصبّت مجهودات هؤلاء في خضمّ هذا المسار الفني، في الارتقاء بالفن التّونسي فكرا وممارسة، لتسير خياراتها التنظيميّة والفنيّة وفق بحث موجّه يعكس مسؤوليّة تشكيليّة وطنيّة تُحرّض على العمل الدّؤوب وتدفع لمزيد التّنقيب والاكتشاف الحرّ والخلاّق في مشاغل الفن المعاصر والحالي. وهي مبادئ حاولوا تركيزها بمجهودات هامّة تتنافس فيها الجماليّات للنّهوض بحركة الإبداع الفني التّونسي، ولعلّ “الدّارس لواقعنا الفني المعاصر يمكن أن يجد فيه من التّجارب ما يبشّر بغد أفضل، ولكن تختلف قيمة تلك التّجارب من حقل فني إلى آخر”[2]..

[1] رشيدة التّريكي، الكون والاستحالة أو “التّراث والإبداع في الفن التّشكيلي التّونسي المعاصر”، الحياة الثّقافية، تونس، العدد 64-65، 1992، ص. 128.
[2] سمير التريكي، برنامج: لمسات الابداع، إعداد رشيدة التّريكي والأسعد الجمّوسي، تقديم الأسعد الجموسي، الإذاعة والتّلفزة التّونسيّة، 1993.

قد يعجبك ايضا