الآن وقد طويت الصفحة التاسعة والثلاثون: مهرجان صفاقس الدولي بعيدا عن الضجيج

الفنان السوري نور مهنا
الفنان السوري نور مهنا

أنهى عرض الفنان التونسي “لطفي بوشناق” ليلة السبت 26 أوت 2017 بمسرح الهواء الطلق بسيدي منصور الدورة التاسعة والثلاثين من مهرجان صفاقس الدولي ولكنه وفي المقابل لم ينه سيل التجاذبات التي ميزت هذه الدورة والتي انطلقت منذ تردد الهيئة القديمة التي عملت تحت إدارة الدكتور ” الأسعد الزواري ” بين المواصلة من عدمها ذلك قبل أن يقبلها الفنان ” الأسعد الجموسي ” بعد تردد الإعلامي “راشد شعور” ورفضه مسألة إدارة المهرجان الأمر الذي ترك للهيئة الجديدة هامشا صغيرا من الزمن ناهز الشهر أو كاد لإعداد البرمجة و للتحضير اللوجيستي و للشروع في تنفيذ البرمجة وسط ضبابية شملت بالخصوص الجانب المالي و الذي يهم التمويل العمومي بالأساس خصوصا و أن عامل ضيق الوقت قد أسقط فرضية التحرك نحو البحث عن التمويل الذاتي .

هذا ما جنته عاصمة الثقافة العربية على المهرجان

رغم رحيلها في شهر مارس الماضي فإن تظاهرة ” صفاقس عاصمة الثقافة العربية 2016 ” مازالت تلقي بظلالها الثقيلة على كل الشأن الثقافي في صفاقس باعتبار مهرجانها الدولي ولعل ذلك ما تجسد خصوصا في سقف الإنفاق الذي رفعته هذه التظاهرة داخل المهرجان وهو الذي جاوز ” المليون دينار ” في السنة الماضية الأمر الذي رفع أيضا في وبين أكثر من ظفرين في قيمة الأسماء التي تم استقدامها على قاعدة تكريس الجانب الاحتفالي على حساب العمل على قاعدة المشروع الثقافي المتوازن الموزع بالتساوي بين كل الأذواق.

في أمر يشبه حمى الإنفاق تم العمل على توزيع كل ميزانية المهرجان على عدد من العروض دون النظر إلى أن المهرجان و الجهة عموما قد لا يعرفان فرصة مماثلة في تعامل المركز بمثل هذا السخاء المالي و الإداري في قادم السنوات و أن هذه التظاهرة/ الحادث كان يمكن ان تشكل نقطة تحول عميق في مسار الثقافي في الجهة و في المهرجان شرط أن يتم استثمارها على قاعدة مشروع طويل الأمد لكن الذي حصل هو أن حمى الإنفاق أتت على كل الميزانية و تركت كل القادمين بعد التظاهرة في حرج كبير بعد رفع سقف الإنفاق و الأسماء و تركه هكذا سقفا دون أعمدة .

ضياع فرصة ” عاصمة الثقافة ” وتبخر حلم تخلي المركز عن دور الأب الوصي وتحوله إلى لعب دور الأخ الأكبر عجلا بعودة الحديث عن دعم الوزارة والمنح المقدمة من الأطراف الرسمية في غياب تام لاستراتيجيات التمويل الذاتي ولعل أخطر ما في كل هذا هو ارتهان البرمجة للمزاج الفني الذي تحدده المهرجانات ” الكبرى ” ذات الامتداد المالي الأكبر ومن ذلك تعويل كل مهرجانات ” الصف الثاني ” اضطرارا على الأسماء التي يعن لمنظمي مهرجانات ” الدرجة السياحية ” استقدامها والحديث هنا طبعا عن أسماء ” الدرجة الاقتصادية ” دون غيرها.

لا تقرب المهرجان.. المهرجان فيه سم قاتل

دون الخوض في النوايا والتفتيش فيها الأمر الذي قد يدفعنا أحيانا للوقوع على حقائق نعرف أطراف خيوطها أو حتى المتحكمين فيها فإن أمر الرفض الجماعي في شكل تململ يقارب التخوف في باطنه من إدارة مهرجان صفاقس الدولي هو بالفعل أمر محير ودافع حقيقي للسؤال عن حقيقته وعن دوافعه كأن هذا الملف/ الورطة قد تحول فعلا إلى نقمة للممسك به أو حتى للمفكر فيه فهل أن الدوافع هي فعلا دافع مالية/ تمويلية بالأساس أم أن للتغييرات الحاصلة في الحدائق الخلفية للمشهد السياسي في تونس أثر في ذك أم أن الموضوع لا يعدو أن يكون عدم رغبة في خوض تجربة التسيير المربكة لواحدة من أهم التظاهرات الثقافية في تونس و المفتقرة في الآن ذاته لشروط النجاح المضمون مسبقا ؟؟

كل الدوافع المذكورة وغيرها من الدوافع الكامنة والظاهرة لا يمكن في كل الأحوال أن تحجب كما من التوق للفراغ تم تسجيله بشكل ملحوظ ومتنام في عملية توجيه نحو ما سمي بسنة بيضاء من المهرجان وإن كان بغير تصريح ولكن كل المؤشرات تقريبا كانت تصب في ذات الاتجاه ولعل من اليسير هنا استنتاج أن جمهور المهرجان في قاعدته العامة والشعبية هو الخاسر الأكبر لكن تفكيك شفرة قائمة الجهــات المستفيدة من أمر الفراغ يبقى أمرا صعبا شريطة التحلي ببعض الفطنة للقيام بذلك.

الميزانية التي لم يرها أحد..

في واحد من تصريحاته المثيرة أشار شاعر تونس الكبير ” محمد الصغير أولاد أحمد “إلى أنه أدار ” بيت الشعر ” في تونس لسنوات طويلة دون أن ترصد له سلطة الإشراف حينها مليما أحمر واحدا ولكن سلطة الإشراف ذاتها وحين رأت أن مغادرته للبيت الذي “هندسه ” بنفسه صارت واجبة اتهمته بسوء التصرف في الميزانية ولعل أوجه الشبه هنا تختلف وتلتقي في توزيع الأدوار خصوصا فمهرجان صفاقس الدولي الذي انطلق ليلة الخامس والعشرين من جويلية و انتهى يوم السادس و العشرين من أوت لم يعرف تحويلا للميزانية المفترضة و المسطرة سلفا مع مختلف الجهات الرسمية و رغم ذلك فقد تجندت جهات عدة لإطلاق اتهامات بالفساد و دعوات للمحاسبة لميزانية لم يصل قطارها بعد .

تحت النقد لا فوقه

شأنه شأن كل عمل بشري جماعي قائم على الاجتهاد فإن مهرجان صفاقس الدولي في برمجة صائفة سنة 2017 و تحت إدارة الفنان ” الأسعد الجموسي ” يدخل تحت سقف احتمالي الإصابة و الخطأ في مواضع عدة تهم البرمجة و التنفيذ في جانب مهم فالاختيارات الفنية التي تم التوافق عليها نجحت في بعضها و لم تفعل في بعضها الآخر و لو ان مقاييس النجاح من عدمه تبقى بدورها نسبية خصوصا مع اعتبار ما تقدم ذكره من حيز زمني ضيق للإعداد و الإنجاز فإذا لم نعتبر إنجاز الدورة و تجنب السنة البيضاء إنجازا فماذا كنا سنعتبر الاعتذار عن الدورة و تركها  بيضاء بالانضمام إلى أهل الربوة ؟

في جانبها الفني يتموقع الذوقي الجماعي ليحدد نسب النجاح من عدمه والتي تحتسب هنا على قاعدة الإقبال الجماهيري على العروض و لعل ما يحسب هذا العام و في شبه مفارقة خصوصا مع الحديث المتكرر عن السنة البيضاء هو الحديث اللاحق عن برمجة بكل الألوان تقريبا و لعل أهم ما فيها هو المراهنة و الموازنة بين الخيار الفني الإبداعي و المواكبة الجماهيرية المعقولة.

فعروض بحجم ” نور مهنا ” و ” زياد غرسة ” و ” لطفي بوشناق ” وعروض داعمة للقادمين على مهل مثل ” لبنى نعمان ” ومجموعة حلم ” وعروض أخرى في عمق ” شيوخ سلاطين الطرب السورية ” و أعمال مسرحية في حجم ” الشقف ” للراحل عز الدين قنون ” و في مستوى ” ألهاكم التكاثر ” المحرك للكثير من السواكن و عروض أخرى مستجيبة لكل المشارب الفنية و العمرية مثل ” حضرة زوار ” صفاقس ” و عرض ” المدحة ” الذي عمل على تطوير نفسه في زمن قياسي بالإضافة إلى عرض ” نجوم الراب و الفن الشعبي بصفاقس “.. هي في المجمل عروض قائمة على التنوع وعلى تلبية الأذواق جميعها بالاعتماد على الإمكانيات المتاحة ولعل المفارقة هنا هي أن ذات الإمكانيات قد حتمت التخلي عن عروض كل من ” راغب علامة ” و ” لطيفة العرفاوي ” بعد ان الإعلان عنهما كاسمين محتملين في الندوة الصحفية التي قدمت فيها البرمجة النهائية للمهرجان.

سيبقى مهرجان صفاقس الدولي كواحد من التظاهرات الثقافية الكبرى و البارزة على المستوين الوطني و الجهوي مطالبا و بشدة خلال السنوات القادمة بتكريس مبدأ فك الارتباط العمودي مع المركز من خلال إيجاد آليات حوكمته الذاتية و خصوصا فيما يتعلق بالبحث عن موارد التمويل الذاتية و لعل هذا الأمر المفصلي لا يتحقق إلا بإيجاد سبيل لإدارة تعمل على امتداد السنة مع اعتبار ما يتطلبه ذلك أيضا من إمكانيات مادية و لوجيستية يبقى في مقدمتها إيجاد مقر دائم للمهرجان يحفظ للعاملين فيه استقرارهم و يحفظ لذاكرة المهرجان حقها في التواجد و البقاء .

خليل قطاطة 

 

 

قد يعجبك ايضا