صفاقس: السمك “القافز” يسقط في شراك الدمّاسة بجزيرة قرقنة

مهرجان الدماسة-قرقنة

تقفز أسراب سمك “المّيلة” في حركة رشيقة لتنغمس من جديد في ماء البحر المتلألئ ثم تعيد الكرة فتأتي شرّعا (أسرابا أسراب)، قبل أن تغوص من جديد هربا من شبكة عمودية ينصبها لها البحارة لتنتهي في الأخير في شبكة أفقية ثانية هي المصيدة الحقيقية.. تلك هي الصورة التي تختزل جمال تقنية الصيد التقليدي “الدمّاسة” التي يختص بها صيادو منطقة “العطايا” من جزيرة قرقنة دون سواهم.
“الدماسة” تقنية صيد غاية في الروعة والدقة والجمال تروي تفاصيل مثيرة في علاقة قراقنة العطايا (آخر بلدة في سلسلة مدن الجزيرة) بالبحر وصيد أسماك “المّيلة والبوري والكرشو” وغيرها من أصناف السمك الأبيض القافز (الذي يقفز في تحركاته السريعة) أثناء فترة الصيف. تم ابتكار هذه التقنية من قبل بحارة العطايا خصيصا للأسماك القافزة المتنقلة في أسراب”، كما يؤكد ذلك عيسى عروس مدير مهرجان “الدمّاسة” في أول دورة لهذه التظاهرة الثقافية الرامية إلى التعريف بهذه التقنية باعتبارها إحدى تقنيات الصيد التقليدي للمميزة لجزيرة قرقنة.
يمتد المهرجان على مدى ثلاثة أيام (17 و18 و19 أوت) ويسعى إلى إبراز مميزات تقنية صيد فريدة تجسم حيل قديمة للإيقاع بالأسماك تجيدها فقط أنامل بحارة العطايا. كما يأمل في أن يحسس بضرورة دعم هذه التقنية والمحافظة عليها بالنظر إلى أهميتها في الحفاظ على الثروة السمكية ودورها في توفير مواطن الاسترزاق لشباب الجزيرة بعيدا عن ممارسة أشكال الصيد الممنوعة أو طرق طلب الرزق المحفوفة بالمخاطر ومنها “تنظيم الهجرة غير النظامية”.
ويندرج المهرجان الذي ينظم لأول مرة في إطار تظاهرة “الموسم الأزرق” التي بادرت بها السفارة الفرنسية منذ 15 جوان الماضي لتتواصل إلى غاية 30 سبتمبر القادم. وتشمل التظاهرة كل الشريط الساحلي بتونس بهدف تطوير مفهوم الاقتصاد الأزرق (دون ترك نفايات).
ويعد أرخبيل قرقنة من أكثر المناطق التي يعتمد اقتصادها على النشاط الصيد البحري أساسا ويستخدم بحارته العديد من طرق وتقنيات الصيد التقليدي أشهرها “الشرفية” و”الطراحة و”الغزل” و”الدراين” و”القارور”، كما يروي ذلك بفخر واعتزاز “الرايس” محمد الصامت للراكبين من رواد المهرجان في مركبه البحري المشارك في الرحلة البحرية الجماعية لممارسة “الدماسة”… رحلة شاركا فيها خمسة عشر مركبا حملت على متونها عشرات الأنفار من أصيلي قرقنة وزائريها وحتى من السياح الأجانب.
“ما أجمل تجسيم هذه التقنية بشكل جماعي وما أروعها من طريقة صيد ذكية وفريدة ،”، هكذا عبرت سائحة فرنسية كانت من بين الحاضرين والمستمتعين بمشاهد الصيد الجماعي. أتت هذه الزائرة الفرنسية خصيصا لاستكشاف تقنية صيد الدماسة وأكدت وهي تخزن في آلة تصوير تحملها كل تفاصيل عملية الصيد، أنها ستعرف بهذه التقنية على نطاق واسع عندما تعود إلى موطن رأسها.
اختلطت في أجواء الخرجة البحرية الجماعية طقوس الاحتفال الصيفي القرقني المقترن بإيقاعات الطبل والمزمار وأغان منتقاة من الموروث الغنائي للجزيرة (ياللي ماشي للجزيرة، يا شبابة يا بنت الغابة، شط قرقنة يا محلاه…) بمعاني الأصالة والبساطة والوفاء لقيم العمل الجماعي التشاركي التي تعتمد عليها تقنية صيد الدمّاسة.
وربما أراد منظمو الخرجة من هيئة المهرجان أن يجعلوا من هذه التقنية شأنا مشتركا وعملية مفتوحة يشارك فيها أكبر عدد ممكن من المواطنين ففسحوا المجال أمام العموم وسخروا عددا كبيرا من مراكب الصيد التي خرجت في قافلة بحرية هي أقرب للكرنفال الذي جسمت فيه مظاهر الصيد مع مقومات العيش برا وبحرا في أجواء من الاحتفال وصل حد الانتشاء.
وبلغ الاستمتاع أعلى درجاته حين شارك الجميع في عمليات وضع الشباك في عرض البحر بمكان متعارف عليه لدى البحارة ب”فحص الزورقة” يبعد نحو خمسة أميال بحرية (الميل يعادل 1.8 كلم) عن قرية العطايا، ثم محاصرة الأسماك بالتضييق عليها في الدائرة المحاطة بالشباك… تتسع أعين المشاركين فرحا وانبهارا مع أول سمكة تقع في الفخ وإن لم يكن الصيد وفيرا هذه المرة.
“ذاك هو قانون البحر: يوم فيه ويوم ما فيهش وذلك هو قدر البحار، يبقى دائما تحت رحمة الطبيعة المعطاء طورا والشحيحة طورا آخر”، هكذا علق رايس السفينة الشراعية لزهر مقديش الذي اختزن في هيئته وقسمات وجهه ونبرات صوته الرخيم كل خصال البحار القرقني الصبور المعتز بهويته المحب للبحر في كل تقلباته حتى الرمق الأخير…”
(وات)

قد يعجبك ايضا