صفاقس: “أصوات الذاكرة” تروم الانعتاق فتختنق في رحاب القصبة خلف أسوار المدينة العتيقة

المدينة العتيقة - صفاقس - سوروكأن التاريخ حكم على النساء ضحايا الانتهاكات في زمن الدكتاتورية في تونس بالإقصاء والاضطهاد إلى الأزل وبلا هوادة. ذلك هو الشعور الذي يستبدّ بك بعد أن تزور عرض “أصوات الذاكرة” الذي يحتضنه رواق الفنون محمد الفندري بالقصبة داخل أسوار المدينة العتيقة لصفاقس من 24 نوفمبر إلى 2 ديسمبر 2018 ضمن جولة يحط فيها الرحال بأربع محطات رئيسية هي تونس العاصمة والكاف وصفاقس والرديف.

المعرض الذي أعدته أنامل فنّانين ونحّاتين ومصورين تونسيين وأجانب في شكل عرض متحفي مصوّر أنجزه “المركز الدولي للعدالة الانتقالية” وجامعة “برمنقهام” بدعم من هياكل مختلفة سُجن ودُفع إلى الرُّكن وراء منضدات باعة الملابس المستعملة “الفريب” التي اكتسحت كامل بطحاء القصبة.

لم يكن من الهيّن على ما همّ بزيارة هذا العمل المتحفي الراقي الذي امتزت فيه المعاناة بالفن لتُخرج إلى العلن صرخة نساء استُبيحت حقوقهن في تونس خلال الفترة من 1984 إلى 2010 الولوجُ إلى المكان واكتشاف تفاصيل قصص مثيرة ومؤلمة لنساء ذنبهن أنهنّ حملن فكرا معارضا أو آزرن زوجا أو أخا أو إبنا سجينا من خلال إيصال “القفة” له حيث يقبع.. في برج الرومي أو سجن 9 أفريل أو غيرهما من المعتقلات.

لم تكن حواجز “الفريب” وحدها من حشر في الزاوية هذا العمل الفني الراقي ومن خلاله “أصوات الذاكرة”. الفضلات المتناثرة هنا وهناك في مدخل الفضاء الثقافي وصراخ الباعة وحتى الأشجار المهملة التي تدلت أغصانها بكثافة، مترقبة لفتة من البلدية لتقليمها، كلها عناصر توحي بأن الإرادة لم تكن لتنصف النساء المضطهدات ولا الجهات التي سعت إلى إيصال أصواتهن.

“كان يفترض أن يزور المعرض ضيوف من سفارة كندا ومن غيرها من الجهات التي دعمت العمل مثل برنامج الأمم المتحدة للتنمية ولكن الوضعية لم تكن لتسمح بذلك” هكذا تحدث منسق المعرض عن المركز الدولي للعدالة الانتقالية، بشير الجويني، لمراسل (وات) بصفاقس في تعليقه على هذا الوضع المزري الذي لم يلتفت إليه أحد من المسؤولين في عاصمة الجنوب وممّن يغارون على صورة المدينة وسمعتها وعلى عراقة الثقافة والنضال فيها.

مدينة صفاقس التي عانت من الاضطهاد لم تعرف كيف تستقبل تظاهرة تؤرخ للاضطهاد والانتهاكات. التظاهرة اختزلت تجارب مثيرة لتسع نساء تونسيات من مناطق مختلفة من البلاد بأعمار مختلفة وتجارب متنوعة في سرديّة فنية ارتكزت على ثلاثية المعرفة والعاطفة والتأمل حول حقوق الانسان واستعادة الذاكرة الجماعية. هي أصوات نساء، كن ضحايا القمع في سجون الدكتاتورية وبقيت ذاكرتهن محاطة بسريّة الروايات الذاتية لسنين طويلة.

يستقبلك وأنت تلج رواق محمد الفندري هذا الفضاء الثقافي المثقل بوزر التاريخ والمضمّخ بعبق الذاكرة (السجن التاريخي للقصبة) اثنان من طلبة المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس ليرافقاك في مسار اكتشاف ما عاشته النسوة من ألوان المضايقات والانتهاكات والاعتقال والتعذيب والتحرش عبر الصورة الفوتوغرافية والتنصيبات الفنية والرسوم والأعمال التشكيلية المختلفة وما جادت به قريحة الفنانين الذين شاركوهن آلامهن وأخذوا على عاتقهم إخراج هذه الآلام في صور يمتزج فيها الفني بالدرامي.

كان رمزي قدورة ومروة عمّار (ماجستير بحث في الفنون التشكيلية) حريصين على تقديم مختلف التقنيات الفنية المعاصرة والرؤى التشكيلية التي اعتمدها الفنانون للتعبير عن المعاناة. من التنصيبات التي تجسم السّجن الانفرادي، ومزار السجين، إلى القصص المصورة بتقنية الفيديو مرورا بأساليب السّرد والتوثيق على محامل مختلفة، تقودك الرحلة إلى قصص وشهادات حية لنساء مناضلات، منخرطات في النشاط الحقوقي وأخريات نذرن حياتهن لمؤازرة سجين سياسي والوقوف إلى جانبه بإيمان لا يفتر أُمّا كنّ أو أختا أو زوجة.

معظم القصص التي أوردتها شهادات النسوة التسعة أعادت إنتاج ماض معقد ونسجت حول “القفة” وما يحيط بها من أشكال المعاناة النفسية والجسدية منذ إعدادها إلى وصولها إلى المعتقلين إن كتب لها أن تصل مرورا بمراقبة البوليس والسجّان وألوان المضايقات والإهانات… “قفة” في الأصل لا تمتلك النساء حتى الإمكانيات المادية الكافية لملئها بما يشتهيه السجين.

يعيش زائر العرض في جولته عبر الأعمال الفنية جوا يعمه الانغلاق، وتعيد فيه السينوغرافيا المعتمدة رسم المسار الرهيب للمناضل عبر أمكنة متعددة، خاضعة للتفتيش: من غرفة الزيارة بالسجن، إلى الممرات airia) ) وصولا إلى لحظة الفراق لينتهي مسار زيارة المعرض إلى قاعة للتفكير ولسماع شهادات وحكايات أخرى لم تسمع بعد حول الانتهاكات يدونها الزائرون.

عرض “أصوات الذاكرة ” يثير فيك وأنت تغادره عبر مسالك الخروج الوعرة بين منضدات باعة الملابس المستعملة سؤالا محيّرا: “ما بالُ النسوة اللّائي ناضلن ونذرن حياتهن لمبادئ سامية ولقناعات شخصية وتسلحن بإرادة قوة لا تلين من أجلها فذقن من الانتهاكات ألوانا، ما بالُهن لا يزلن يعانين الازدراء والاستنقاص في تونس حتى بعد ثورة يفترض بها أن تكون وضعت حدا للفكر القمعي والديكتاتوري المقيت؟”
وات

قد يعجبك ايضا