صفاقس .. هل يعود الاعتبار؟ بقلم عبد اللطيف الفراتي

صفاقس من فوق

لقد لاحظت من مدة طويلة أن أخشى ما يخشاه أبناء صفاقس هو أن يقع اتهامهم بالجهوية ، ورغم أن الانتساب للجهات المختلفة عام في البلاد ، فإن الصفاقسية يلامون على جهويتهم عندما تبرز من حين لآخر في مطالبات أو افتخار بالجهة واعتمادها على نفسها ، وقدرتهم على العمل وإتقانه ناهيك أنهم يسجلون سنة بعد سنة وبدون انقطاع أفضل النتائج في الامتحانات الوطنية بما فيها هذا العام 2017 حيث تم ترتيب صفاقس الأولى في الباكالوريا والأولى في البروفي والأولى في السيزيام وتفوق 4 من 7 في الباكالوريا ونالوا جوائز رئيس الجمهورية ، كما اعتبرت جامعة صفاقس ترتيبا عالميا بين الألف الأوائل حسب أكبر مقياس لترتيب الجامعات في العالم ، وهي وجامعة المنار الوحيدتان في تونس فبين المراتب الألف الأولى.

وكان بورقيبة عندما التحق به الهادي شاكر في مؤتمر قصر هلال التأسيسي أو الانشقاقي عبر عن اطمئنانه على سير الحركة بانضمام صفاقس إليه ، وكان يقول في كل مرة أنه يعلن قراراته الهامة من صفاقس لضمان نجاحها ، وقد دأب خلفه زين العابدين بن علي على إعلان ذلك ، ويعتقد الكثيرون اليوم أن نجاح الثورة في يعود إلى ثلاثة عوامل متضافرة :

  • انطلاقة يوم 17 ديسمبر من سيدي بوزيد
  • هزة كبرى بسبب الأيام الدموية في تالة في جانفي
  • المظاهرة الضخمة في صفاقس يوم 12 جانفي التي سار فيها حسب التقديرات بين 40 و100 ألف متظاهر من أمام محطة الأرتال حتى ليسي طريق قابس أي حوالي ما بين 2 إلى 3 كيلومتر ، والتي يعتبرها الكثيرون الفعل الحاسم في نجاح الثورة ، فيما مظاهرة تونس يوم 14 جانفي بالعاصمة كانت الضربة القاصمة للنظام السابق ( وفي نظر الكثيرين إنه ترنح ولكنه حافظ على توازنه وبقائه) .

صفاقس احتضنت عدة ثورات في تاريخها ، إحداها ضد الاحتلال النورماني الذي سيطر على المدينة في 14 جويلية 1148 ، ولكن حاربه أهلها حتى انتصروا وأطردوا النصارى كما كان يقال لهم في حينه ، وفي 1864 وتزامنا مع ثورة علي بن غذاهم ثارت صفاقس ضد الباي وتزعم الثورة الباي عسل وقاضي القضاة عبد العزيز الفراتي ، ولكن الباي تغلب عليها ، وفي 16 جويلية 1881 اقتحمت البحرية الفرنسية صفاقس عنوة ، بعد أن رفض أهلها منذ 12 ماي من تلك السنة ما وقع عليه الصادق باي من استسلام لفرنسا ، واستنجدوا بالباب العالي في الاستانة دون جدوى ، ورغم الغرامات الثقيلة سواء في 1864 أو 1881 فإن المدينة وما وراءها استطاعا الوقوف على القدمين مجددا ، ومنذ 1920 وقيام حزب الدستور بزعامة الثعالبي ، وإيفاد وفد لباريس تيمنا بما حصل في مصر على يدي سعد زغلول الذي قاد وفدا للندن ، وتسمية حزبه بحزب الوفد ، انضم سكان صفاقس للحركة الوطنية ، وسرعان ما انضمت أغلبيتها للدستور الجديد بزعامة الهادي شاكر ، وكان رجلا يتمتع بكريزما قوية على بساطة محببة ، وبرز الرجل ليس فقط كزعيم محلي بل كزعيم وطني ، فقد كان ضمن الزعامات الوطنية الكبرى التي تم نفيها لبرج البوف ، ثم لقلعة سان نيكولا قرب مرسيليا بعد أحداث 9 أفريل 1938، وإذ حضر كل مؤتمرات الحزب الدستوري الجديد فقد برز في مؤتمر دار سليم ، الذي كف يد بورقيبة عن التصرف المالي ، لسلوكه الأخرق من الناحية المالية ، ثم إنه ترأس مؤتمر 18 جانفي 1952 الذي يعتبر مؤتمرا حاسما لأنه أعلن الثورة والمرحلة الحاسمة منها بانطلاق الكفاح المسلح.

وإذ تم اغتياله في 13 سبتمبر 1953 أي 9 أشهر بعد فرحات حشاد ، أصيل ولاية صفاقس هو الآخر ، فإنه كان دائم الحضور في كل المعارك ، بما فيها معركة 1947 التي قادها الحبيب عاشور في صفاقس ضد أحد أبغض المظاهر الاستعمارية ، والتي انتهت بسقوط عدة عشرات من القتلى في مواجهة غير متكافئة مع القوات الاستعمارية .

وكان لصفاقس دور المؤسس للإتحاد العام التونسي للشغل ، فقد تأسس فيها على أيدي فرحات حشاد وعبد العزيز بوراوي ومحمد كريم والحبيب عاشور وغيرهم ، قبل أن ينتقل للعاصمة تونس ، كما كان لها دور حاسم في تأسيس الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة صحبة الجيلاني بالحاج عمار عن طريق علي السلامي ومحسن الفراتي .

وبقطع النظر عن تقييم الخلاف البورقيبي اليوسفي ، والذي لا يعدو أن يكون صراعا على الزعامة من وجهة نظرنا ، فإن موقف صفاقس إلى جانب بورقيبة في سنة 1954 وتولي تنظيم مؤتمر الحزب الدستوري بين أحضانها في نوفمبر 1955، مكن البلاد من تجاوز أزمة كان يمكن أن تعصف بها وبمقدراتها.

لذلك فإن صفاقس تاريخيا وحاضرا لم تكن مقصرة في مواقفها الوطنية ، وهو ما يدفع أهلها للتساؤل عن أسباب هذا التجاهل على مدى أكثر من 60 سنة ، وتركها دون استثمارات عمومية وطنية ، بل وإهمالها ، كمدينة وولاية يمكن أن تكون قاطرة للتنمية الذاتية و في الجهات المحيطة بها ، وعلى المستوى الوطني.

وكان الديوان السياسي للحزب الدستوري وبعد خطاب منديس فرانس في 31 جويلية 1954 ، وعودة حزب الدستور للنشاط ودخول أعضاء منه للحكومة التفاوضية ، قد قرر اعتبار يوم 13 سبتمبر من كل سنة عيدا للشهداء ، وفقا لخبر نشرته جريدة الصباح في حينه ، ووفقا لما جاء في كتاب عبد المجيد شاكر ” الهادي شاكر جهاد واستشهاد “. و 13 سبتمبر يوافق يوم اغتيال الهادي شاكر وذلك اعترافا من الديوان السياسي بدور الرجل.

غير أن ” المجاهد الأكبر ” وبعد عوده التاريخية في 1 جوان 1955 ، ألغى ذلك القرار ، ولعل وراء ذلك أساب موضوعية وأخرى ذاتية :

الأولى أنه أي بورقيبة أراد أن يربط الذكرى بحدث 9 أفريل 1938 الذي قتل فيه عدة عشرات بمناسبة مظاهرات للمطالبة ببرلمان تونسي.
أما الثانية فتتمثل أنه كظم غيظا شديدا على كل من المنجي سليم والهادي شاكر ، واعتبرهما المسؤولان الاثنان عن كف يده في التصرف في الأموال عند إقامته في مصر بين 1945 و 1949 ، وتحويل ذلك التصرف إلى الدكتور الحبيب ثامر وهو قريب المنجي سليم ، وهي أموال كانت متأتية من مساعدات الجامعة العربية والحكومة المصرية وحكومات عربية أخرى ، بعد أن لوحظ أنه لا يحسن التصرف ، وهو ما أثبته المناضل المرحوم حسين التريكي ابن بلده المنستير في كتاباته العديدة.

كان ذلك ما أثار حفيظة بورقيبة ضد المنجي سليم وضد الهادي شاكر، وضد مدينته بعد طول تقدير ومحبة ، وبعد أن بدا له أن قيادة تونس تآمرت عليه أيام هجرته.

لم يكن ذلك كله كافيا لولا عاملان اثنان آخران :
أولهما أن بورقيبة حارب طيلة حياته قيام زعامات محلية أو سياسية إلا في منطقته أي الساحل ، وتونس التي اضطر للتحالف معها منذ مؤتمر صفاقس الشهير في خريف 1955، وهو تحالف غير متكافئ باعتبار أن اليد الطولى كانت لبورقيبة .

وثانيهما أن الصفاقسيين لم يقصروا في ضرب بعضهم البعض ، فبعد أن برز عبد المجيد شكر كزعامة محلية ذات وزن ، خاصة لأسباب وراثية ، تم ضرب صعوده ، فمنذ الاستقلال الداخلي كانت وزارة الداخلية تسند عادة لمدير الحزب الدستوري ، وبهذه الصفة أسندت للمنجي سليم أولا ثم بعده للطيب المهيري ، وكلاهما من العاصمة تونس ، وعندما جاء الدور بعد وفاة الطيب المهيري على مدير الحزب آنذاك وكان يشغل الخطة عبد المجيد شاكر ، اتجه الأمر وجهة ثانية ، على أساس أن التوازنات الجهوية تقتضي بقاء وزارة الداخلية في تونس ، وبالتالي تم تعيين الباجي قائد السبسي في المنصب ، وإن كان للحقيقة أن عبد المجيد شاكر فقد توازنه منذ مؤتمر الحزب الدستوري في خريف 1964 ، وتم توزيره في وزارة ثانوية.

غير أن من كان مؤهلا فعلا لزعامة الجهة كان منصور معلى ، الذي تقلب في عدة مسؤوليات عليا برز منها كرجل دولة فعلي ، ولكنه لم يبلغ أشده إلا بعد وصول الهادي نويرة للوزارة الأولى ، فبعد وزارة البريد والبرق والهاتف ، التي شرع في إدخال إصلاحات كبرى عليها ، أهمها محاولة تحويل الصكوك البريدية إلى بنك شعبي ، بوصفها أكبر مركز للودائع في البلاد ويمكن استخدامه كبنك استثمار بهذه الصفة ، وهو إصلاح ثوري لم يتحقق للآن ، ولا يبدو أنه سيتحقق يوما ، عرض عليه منصب وزير التخطيط ، وإذ قبل بالمنصب لطموحاته الكبيرة لما يمكن أن يحققه للبلاد ، فإن نشر التشكيلة الحكومية كوزير معتمد لدى الوزير الأول ( الهادي نويرة) للتخطيط جعله يرفض ، ولا يقبل إلا بوزارة كاملة غير خاضعة لأحد إلا كوزير كبقية الوزراء ، وبعد أخذ ورد رضخ الهادي نويرة ، ولكن بدفع من بورقيبة الذي كان يرى في الرجل شابا مندفعا مليئا بالوعود.

خلال تلك الفترة من بداية السبعينيات ، تولى منصور معلى صحبة فريق أشبه ما يكون بمكتب دراسات متطور ، إعداد أول تخطيط علمي ، بأهداف واضحة مرقمة ، غير أنه اصطدم بداية بمن هاجمه داخل حزب الدستور ، على أساس أنه أشار إلى نواح إيجابية في عشرية الستينيات ينبغي البناء عليها أي عشرية أحمد بن صالح ( الذي كان يكن عداء شديدا لمعلى )، لكن تمت لفلفة الأمر، وشرع منصور معلى في تنفيذ مخطط اعتبر مع مخطط بداية الثمانينيات الذي أشرف على إعداده منصور معلى أيضا بعد سنوات من الغياب عن الوزارة ، ومخطط التسعينات بإشراف مصطفى كمال النابلي أفضل وزير تخطيط عرفته تونس ، أفضل المخططات التي عرفتها البلاد شكلا ومبنى .

لكن منصور معلى لم يكتف بذلك بل إنه أسس لأيام دراسية سنوية لمدينة صفاقس ، قدمت مجموعة مشروعات متكاملة ، للتنفيذ بمشاركة حكومية ، وجهات جهوية ، من بينها إنشاء كلية للطب ونواة جامعية وعدة مؤسسات صغرى يمكن أن تكون نواة لصناعات كبرى وذلك انطلاقا من المكامن الموجودة ومن التقاليد الصناعية القائمة ، وبدا أن الرجل لا يسير في الاتجاه الذي ترغبه السلطة ، فقد برز كزعامة جهوية فرضت نفسها وكان لا بد من التخلص منها ، كما إن المشروعات التي قدمها بدراسات جاهزية متكاملة ، لم تكن في السياق الذي ترغب فيه السلطة من تأهيل جهة قد تلعب دورا ، أكبر مما يريد بورقيبة واللوبي الساحلي.

بقلم عبد اللطيف الفراتي

قد يعجبك ايضا