اقتصاد الريع بين شمولية التعريف وكثافة المعنى

اقتصاد الريع بين شمولية التعريف وكثافة المعنى

قد يكون أشمل تعريف للريع (الاقتصادي) في ما ذهب إليه روبرت توليسون: أية “عوائد زائدة” تفوق “المستويات العادية” التي يتم انشاؤها في الأسواق التنافسية. وبشكل أكثر تحديدًا ، فإن الريع هو “عائد يزيد عن تكلفة الفرصة البديلة لمالك المورد”. ولأن الأسواق الحرة تنزع تلقائيا (مع استثناءات محدودة) نحو التنافس الذي يلغي الريع، يسعى من ينتفع من الريع الى تعطيل آليات التنافس بطرق قانونية (وإن كانت غير مشروعة) أو غير قانونية.

يبدو هذا التعريف علميا ودقيقا، لكنه لا يبدد حيرة القارئ غير المختص فقد لا يستشعر فيه خطورة الريع المهولة على اقتصاده وبلده.

و كي نبرز شساعة التعريف نأخذ مثالين اثنين: المثال الأول يحيل على المهن الحديثة كالطب والمحاماة، التي تحد فيها الدولة – قانونا – من إمكانية التنافس عبر تحديد عدد الطلبة المترشحين وعدد الشهائد الموزعة التي تُشترط كي يباشر أي شخص هذه المهن، ويؤدي هذا الحد من التنافس الى ثمن أكبر يتحمله حريف هذه المهن مما كان يتحمله لو لم يقنن التنافس ويحد منه. المثال الثاني هو لعائلة دكتاتور في دولة نامية تستغل نفوذها لتستحوذ على قطاعات واسعة من اقتصاد البلد، فتتملك كبريات شركاتها وتمنع أي دخيل من أن ينافسها وتصادر الحقوق وتعلو فوق القانون.

يتساءل القارئ، هل يتساوى المثالان في ضررهما على الاقتصاد ؟ قطعا لا، فالمثال الثاني أكثر سوءا بمراحل. هل الفرق بينهما اذن فرق في الدرجة فقط أم في النوع أيضا ؟

نقترح اختبارا بسيطا للتمييز بينهما: إذا أرست الدولة (فرَضا) مؤسسات شاملة تكرّس علوية القانون وتحمى التنافس الحر وتصون الملكية الفردية ، فمن من المنتفعين بالريع يكون أفضل حالاً ومن يكون أسوأ؟ لا شك أن أغلب المنتفعين بالريع – ممن يمكن إيجاد أسباب تقبل النقاش وتبرر الحد من التنافس في مجالهم – سيكونون أفضل حالًا. مثال ذلك الأطباء والصيادلة. هذه المؤسسات الشاملة ستنفع حتى النقابيين المعربدين (أغلبهم) أو الأعوان المرتشين (بعضهم) أو صعاليك المآوي العشوائية ممن صنعوا ريعهم بفساد أيديهم، وإن اعتقد معظمهم خلاف ذلك. في المقابل، فإن المنتفعين من الريع من كبار الرأسماليين المتنفذين مثل عائلة الحاكم الدكتاتور أو أبناء البرجوازية الاقطاعية الفاسدة سيفقدون امتيازاتهم بين عشية وضحاها ويختفون نهائيا من المشهد الاقتصادي في تطبيق مدرسي سريع لمفهوم الهدم البنّاء لشومبتر وفي أغلب الأحيان يحاسَبون ويسْجنون.

هذا اليقين لدى هذه الفئة الباغية من كبار الاقطاعيين المنتفعين بالريع بأن مكانتهم تزول فور تأسيس الدولة مؤسسات سياسية واقتصادية شاملة للجميع تعلي القانون وتكرسه يجعلهم يخوضون حرب حياة أو موت ضد أي رغبة حقيقية – ولو جزئية – في الإصلاح المؤسساتي. وكأي طرف يريد خوض حرب، تقوم الدولة التي يسيطر عليها كبار الاقطاعيين المستفيدين من الريع باستمالة قطاعات واسعة من الموظفين أو أصحاب المهن الحرة أو عامة المواطنين إلى صفها، عبر خلق فرص كثيرة للريع البسيط ويكون ذلك عبر تقنينه (انتداب أبناء العملة في المؤسسات الحكومية قبل غيرهم، أو توريث بعض المهن) أو السكوت عن الفساد في أسفل السلم الحكومي (ارتشاء بعض أعوان البلدية والشرطة والديوانة) أو غضّ النظر عن ممارسات يصعب تصديق عجز الدولة عن محاربتها مثل التهريب عبر الحدود في وضح النهار. (مثل ذلك كمثل الأنظمة الدكتاتورية التي تؤسس قاعدتها الشعبية عبر نشر الزبونية في عموم المجتمع، فيخال بعض الناس أنفسهم محظوظين، وهم بالكاد يأخذون حقوقهم). وما إن يريد أحد السياسيين الإصلاح إلا وينتفض ضده كل هؤلاء، وهم لا شك بمئات الآلاف أو الملايين. هذا الوضع مريح لكبار المنتفعين من الريع، اذ يختفون وراء بيادق الفساد البسيط، يحتمون برعونتهم ويدعمونهم من وراء حجاب. يؤدي هذا الخوف المشترك من الإصلاح إلى هدنة قبيحة بين المنتفعين بالريع، كبارا وصغارا، يأكل كل نصيبه من الكعكعة، وإن تفاوتت الأحجام. وتتراوح قواعد الاشتباك بينهم بين مناوشات ظاهرية لا تمس مصالحهم الأساسية مثل العلاقة الجدلية بين (بعض) النقابات و(بعض) أرباب العمل وبين التحالف المعلن أحيانا، أين تلتقي مصالح كبار الرأسماليين الفاسدين مع فساد قاعدي في غلاف اجتماعي.

يدعونا هذا التمايز اذن الى إعادة تعريف الريع ليكون أقل شمولية لكن أكثر كثافة في معناه و أكثر حفاظا على الشحنة المعنوية السلبية التي يفترض أن يثيرها لدى القارئ: الاقتصاد الريعي هو نظام، تسيطر فيه مجموعات خاصة على الدولة، وتحوّل وجهتها من هيكل يحمى المواطن ويخدم المصلحة العامة، إلى هيكل يحمي مصالحهم وامتيازاتهم وريعهم، وتتحرك هذه المجموعات بنشاط لحماية نفوذها عبر اختراق واسع للسلط الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، والسلط الموازية كالإعلام والنقابات وبعض منظمات المجتمع المدني، أو حتى بطرق العصابات التي تحمي أسواقها بالحديد والنار. وتشجع هذه الفئة على انتشار الريع في عموم الدولة كي تنتدب من يساندها وتوسّع جبهتها في حربها ضد أي إصلاح مؤسساتي يمس مصالحها.

نعي من هذا التعريف أن الريع هرم فساد يرتكز على قمته، وإن كُسرت، سهُل تفتيت بقيته. يُفهمنا هذا التعريف أيضا لماذا يتم التركيز على الريع كأهم سبب يمنع الدول من النمو واللحاق بالدول المتقدمة، فإن قارناه بسوء إدارة الاقتصاد النابع عن ضعف دراية، وجدنا أن سوء الإدارة (البريء) حالة غير مستدامة تزول تدريجيا عندما تُراجع الدول سياساتها وتتعلم من غيرها وتطبّق ما يكاد يُتفق عليه في كتب الاقتصاد التنموي. في المقابل فإن الريع، عبر تمكّن المتنفذين من اختراق الدولة وتسخيرها، حالة مستدامة بقانون القوة لا قوة القانون، لا تزول إلا بعد صراع تخسره هذه النخب الفاسدة، ينتهي بإصلاح مؤسساتي شامل وعميق يحرر الطاقات الكامنة للاقتصاد. صراع سهُل الى الآن تصوره وصعُب إنجازه، يبتدئ بفكر وقلم ويتنهي عند سياسي مصلح وعنيد وقاض نزيه وشجاع.

علاء عبيد

قد يعجبك ايضا