“شَواطِــئُ لنْــدُن”… رد أدبي رائع على الشاعر “سعدي يوسف” بقلم نزار شقرون

 

نزار شقرون
نزار شقرون

منذُ خَمس سِنينَ لمْ أكْتبْ قَصيدَة، والبَحْر مِثلَمَا تركْتُه بِلاَ شَاطئ، نَمتْ عَلى ضِفَافِهِ رَوائحُ النَّفط والفُسفَاط، وَتَرنَّحَتْ فِي ثَنايَاهُ أشْلاَءُ الأسْماكِ بيْنمَا تَاهَت السُّميْكاتُ عَن بيُوتِها وأَطلَّتْ بِموْتِها العَاجِل لترْسُم مَرايَا انْكسَارِنا. مُنذُ سَنَواتٍ والبحْرُ فِي سُباتٍ، نَحنُ نَدنُو مِنْ بَريقِهِ السّرابِيّ وَهْوَ ينْأى إلَى ضِفافِ الشَّمال، نَحنُ نُسمّيه الكازينو وهو لمْ يَعُدْ يُراقص الفَتيات. تَاهَ عنَّا، تُهْنا عنْهُ. لمْ نَجدْ وَجْههُ فِي المِرآة. وأصْبحْنا عُراةً مِنْهُ، نُمنِّي الجَسدَ بِطراوَة مَوجَاتِهِ وَلكنَّهُ مَضَى دُونَنا. طَالتْ نَظَراتُنا شَواطِئ أُخرَى، فالبَلدُ لاَ يُقْسمُ، والأرْضُ واحدةٌ أيًّا كانَت نوايَا التّقْسيمِ. والبَحر ملْهِم، هذَا مِنْ بَداهَةِ القُدَامَى والمُحدَثينَ، وَلكنَّ الشّاطِئَ مَا كَانَ سِوَى ظَهر البَحر، يَحمِلُ قَوافِيهِ المتكسّرَة، يَحنُو علَى نَباتِه الطّائِش، يَحضُنُ رَعَشَاته المُتجبِّرة، يَغسِلهُ مِنَ الزَّبدِ المُريعِ. مَا كَانَ الشّاطِئُ ملْهمَنا. ركبْناهُ لِنقفزَ إلَى البَحر. وهَاهوَ يَركبُ فَاجِعتنا.

ماذَا نُسمِّي البَحرَ حِينَ يُلقي بقارورة ويسكي تحمل برازا من كلمات سعْدي؟ ما بَينَ قَوارير البِيرة الطَّائِشة علَى خزِّ الكَازينُو وبيْنَ تِلكَ القَارُورَة مَسَافَة القَاتِل وَالمَقتُول. أيًّا كَانَ الشَّاطئِ فِي بلَدي، فالاسْمُ واحِدٌ، سيدِي مَنصور، الشَّفّار، سُوسة، سِيدي بُوسعيد، ظِلالٌ لبعْضِها ظِلاَل. الشَّاطئُ رُكْحُ القاتلِ، هكَذا حَدثَ فِي يوْم بُكاء البحرِ، أمَامَ عيْني بينيلُوب وهْي تغزلُ ردَاء أوليس. عرْبَد سيْف الدّين الرّزقي، خَرَجَ عَنْ هَذا الجِلدِ الذي نضَّدتْه أصَابعُ عِلّيسَه، رأَى الشَّاطئ صَحْراء القُدَامى. الرّايَة تُبيحُ القتْل. وباسْم اللَّه يَجوزُ تمليحُ أجسَادِ الأبْرياءِ بالدَّم. ولكنَّ الشّاطئَ غير الصّحراء، عيْناه علَى الماءِ يَحبلُ ماءًا، وحتّى الصّحراء غيْر الصّحراء. صحراؤنا تلِد، وصَحراؤُهم تتوعَّد، والمَاء ليسَ هوَ الماء، مَاؤُنا يُوضعُ في أرْحَام الحَياة وماؤهم اسْتمناءْ. مَا الفرق بيْنَ رصاص الرّزقي، وكلمات السّعدي؟

الأوّل يُدافع عن ذاكرة الظّلمات والثّاني يُدْخلُ ذَاكرتَه فِي الظُّلُمات. الأوّل ضدّ الثّاني، والثّاني صنو الأوّل منْ فرْطِ سُكر الكلمات. ومِنْ شَجنِ المُفارقَات، الأوَّلُ في أقْصى اليَمين، والثّاني شيوعيٌّ أخير. الشّاطئ يعلّمنا درْسَ تخْليط الألوان. زُرقة البحْر، حُمْرة الدَّم، بنفْسَجَةٌ آتيةٌ من شاطئِ لنْدن، تائِهَة عَن ْلَوْنِها، منْقلبَةٌ عنْ روعةِ البَنَفْسج. “لِيه يا بنفْسجْ”، خانتكَ الأيادِي فِي لَحْظَةِ عماءِ النّظراتْ. كيفَ يَنْهضُ أبو جهادٍ منْ روْضتِهِ ليقْرَأَ حمَّى سعْدي، وتخرُجَ سناءَ منْ شجرَةِ الزّيتونِ لاَ مِنْ شاطئٍ مُحتلّ لتغنِّي رَغْمَ الوأْدِ. مُنذُ سَنواتٍ وطئتْ أقْدامُهمْ شاطئ سيدي بُوسعِيد، تَسلَّلوا إلَى خِدره ضَاحِكين، الضَّحكَات نَفْسها يَرتدِيها الرّزقي فِي دَورِ القَاتلْ. الخَطواتُ هي الخطوات مَع اخْتلافٍ طفيفٍ في البَصَمات. الإرْهابُ القَديمُ عرّابُ الإرْهابِ الجَديد. التّكوّنُ في الرَّحم نفسِهِ. فكيْفَ لاَ ترى؟ ساعةُ بيغْ بِنْ عوراء في حزيرانْ. تُساوي بينَ الخصْمَيْنِ. الضّحايا أبْناءُ الهايْد بارْك أنصَتوا طيلةَ حياتِهمْ إلى هجاءِ الدّولة والدّين والوالِديْنِ، دفعوا منْ ضرائبِهِمْ مِنحًا للهاربينَ منْ شواطئِ بلْدانِهمْ، ولم ينتَظروا أنْ ترْثيهِمْ بِبُصاقِ الدَّيْنِ. مدِينٌ أنْتَ لكلماتهم الأَخيرَة. ولكنَّكَ عكّرتَ حلْمهم في قُبورِهمْ. المئاتُ ممّنْ ناموا في لندن هانئين، عادوا إلى الشّاطئ بنيَّة ترْحيلِه إِلى الصّحْراء، ولكنَّ الجُغْرافَيا منْ لدن اللّه، واللّه لمْ يَنمْ كيْ يسْمحَ لهُمْ بتجميدِ التّاريخ في الثلاّجة.

في لندنْ، تَكتب ما شئتَ، وأنْتَ خزّافُ الهذيانْ. هلْ كنْتَ ترى عرَبًا في لِباسِ أفغانيٍّ، يأكلون التّويْستْ، ويمضغون البيرغرْ، ويغتسلون بالبيبسي، ولكنّهم يَحْيَوْنَ في كلماتِ ابن تيميّة و يُصلّونَ خلْفَ رؤوسِ القائماتِ السّوداءِ. لا شكّ أنّكَ رأيْتَهُمْ يصْطافُونَ على شُطآنِهمْ، وكنْتَ لاشكَّ ضدَّ الاغتِسالِ ببحْرِهم، فلِمَ رأيْتَ الآنَ سيْفَ الدّين الرّزقي في عيْني سناء المحيْدلي، وقَدماهُ في روثِ البعيرِ. شاطئ سوسة، يُقاتلُ زبَد الموْجَةِ الآتيَة من شواطئ لنْدن. وأنْتَ منْ تُقاتِل بالقصيدة؟ خلْنَا الحياةَ ضدَّ الصّحْراء وها أنَّكَ تسوّي بينَ نظْمِ الإرهابِ وشعْرِ الحياة. سيأتي إبراهيم الكوني متَحَامِلاً على عكّازِه ويقُولُ لي: مازلْتُ أحْمِلُ الصّحْراءَ في جناحيَّ وأنا في سوسيرا. سيطلُبُ منّي صبري حافظ مُجدَّدا أنْ أُخفّفَ منْ وطْأة الكَلماتْ. وستهْمسُ لي عروسيّة النّالوتي: خُذْ مراتيجي، ولنَعُدْ إلى فنْدق الرّوايال غاردن. لكنّ ليْلَ لنْدن الماطر لاَ يَحُضُّ على السّباحة مع التّيّارِ. فلِمَ تُريدُ لدمنا أن يَكونَ دمهمْ؟

سيسْألُني إبراهيم الكوني عنْ جنسيّتي، يبتهج لأنّني جنوبيٌّ ويندهش من هجائي لصحْرائهِ. قلْتُ لَهُ مِرارًا: لا أُريدُ بعْثًا لبرْنُس جدّي. قال لي ولكنّك بربريّ، سحنتك أمازيغيّة، أجدادك أبناء الصّحراء. قلْتُ لَهُ: لي شاطئٌ قديم أحْيا لأعيد إليْهِ البحرَ كيْ يُصبِحَ شاطئًا آخرَ. ترك عُكّازهُ يَهوى على أديم قاعَةِ معرضِ الكتابِ، واتّكأ على كتفي ومشيْنا. رمقني صبري حافظ ضاحكا، و ابتلعتنا شوارع لندن. في الصّباح، جالست مريد البرغوثي لشرب القهوة في كافيتيريا الفندق. لم نفكّر يوْمًا أنْ يطلَّ عليْنا سعْدي في فقّاعةِ الفنْجانِ لنمتنع عن ارتِشَافِ القهْوةِ. كانت عروسيّة تنْسُجَ حديثها مع رضوى عاشور، ولم يتخيّلا يوْمًا أنْ يُطالِعَهما سعدي يوسف بَطلاً في رواية”مديح القاتل”. في شَاطئ سُوسَة يتعجَّب خَدمُ فُندُق الرّوايَال مِنْ سعْدي. يخْشَونَ مِنَ السّعدِ القادم، هلْ شؤْمٌ قادم؟ إذا انْقلبَ الشّاعرُ ضدَّ نفْسِهِ فمنْ يَحْمي الشّاطئ؟

د. نزار شقرون

قد يعجبك ايضا