قراءة لمعرض الفنّانة التشكيليّة هندة بو حامد بقلم الدّكتورة ياسمين الحضري

ديناميات... مناعة فنيّة في زمن الكورونا

قراءة لمعرض الفنّانة التشكيليّة هندة بو حامد بقلم الدّكتورة ياسمين الحضري

“وما عالم هندة بوحامد إلاّ عوالم مجزّأة” أبحرنا فيها بعد أن تطوّقنا بطوق النّجاة خشية الغرق في بحر لوحاتها المعروضة برواق المعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس أين شهد هذا الأخير عرسا بهيجا وسط حشد من الحضور، ترنّموا على إيقاع الموسيقى الممزوجة بسحر الألوان لمعرض فنّي يحمل عنوان “ديناميات…أنطولوجيا الذّات في تأويل الأمكنة” والذي يتواصل إلى غاية 8 أفريل 2021.

ما إن تمتطي السيارة “في متاهات المدينة” حتّى تجد نفسك تتجوّل في ربوع الألوان والخطوط والتّقسيمات والأجسام والمسطّحات بين مطبّات الحياة ويومياتها التي نعيشها.

و”بين الجسور” التي تربط الفنّي بالدّنيوي والواقعي بالخيالي إلى أن تتوه في “كونيات” لتعيش في زمنين زمن أوّل أسطوري متخيّل وأمّا الآخر فهو حقيقيّ أو فعلي وعند التقاء الزّمنين يوقف الزّمن المتخيّل الحقيقي منه وعندئذ يتحقّق ما يسمّيه “ميرسيا إلياد” “Mircea Eliade” “بالعود الأبدي إلى زمن البدايات”[1]، ضمن إطار مكانيّ جديد يتداخل فيه الواقعي باللاواقعي يبدأ بالتعبير عن “دلالات الأرض والسّماء وما بينهما ليغوص بالمتلقّي في عوالم ميتافيزيقيّة ما ورائيّة أسطوريّة” كما أقرّت الفنّانة. لا شكّ أنّ “بو حامد” أظهرت سعيها نحو صناعة “ألفة” بينها وبين هذه الأمكنة فحوّلتها من صامتة، ذهنيّة متخيّلة إلى متحدّثة ومتكلّمة تخاطبك كما تخاطبها بعد أن عاشرتها إلى أن ألفتا بعضيهما البعض حتّى تحوّلت قطعة من الرّوح والفؤاد ففي عمل “خطّ سير روحي” “Itinéraire Spirituel” ترى الرّوح منتشية في جزيئيات اللوحة وتفاصيل فويرقاتها اللّونيّة المتماهية وخطوطها الدّقيقة المتحرّكة طورا والثابتة طورا آخر بتقاطعاتها وانسيابيتها.

سكنت “هندة” هذه الأمكنة الخارجة عن المعتاد والمألوف جسّدت فيها يوطوبيات وممارسات بل فضاء للعب إنّه “فضاء آخر”[1] حسب ما يقرّه فوكو خارجا عن كلّ سلطة وعن كلّ إملاءات إيديولوجيّة وحدود وأطر ولعلّنا هنا نتحدّث عن “مغامرة” بامتياز أساسها الحريّة في التوزيع اللّوني والضّوئي وفي البحث عن التفاعلات بين المواد من حرق وحفر مخلّفة آثار لتتحد كلّ هذه العوامل من أجل أن تتحصّن الفنّانة بمكان يحتضنها فتكابد وتجابه لتحقيق استحالة الأشياء والظّفر بعالم لم يعد التفرقة فيه بين “البلاطي” و”العلوي” قائما.

لا تخلو أعمال الفنّانة من بثّ نفس تذكاريّ استرجاعيّ فصحت عن مخزون عالق من بيئتها أخذت قيمة عاطفيّة وشعوريّة حتّى تلفي روحك تتساءل عمّا إذا كان المكان محتضنا للفعل التشكيلي أم العكس هو الصّحيح؟ عندها لا يبقى سوى للريشة دور تحديد ماهية المكان ومنحه صيرورة فيتحوّل إلى عجائبي، أسطوري فخيالي سعيا من “هندة” في تحقيق مكانية المكان.

أبدت الفنّانة اهتمامها وانشغالها بمسألة الجائحة من خلال تجسيدها لعمل عُنون بـ”المدينة في زمن الكورونا” أين نقلت تصوّرا جديدا للحاضنة بل “الحاضرة ” في متاهات دائريّة سابحة في خلفيّة تجمع بين القتامة والضبابيّة وسط تنوّع ثريّ من الألوان تحصّنت بها كحصن يحرسها من العدوى قاومت به توجّسها وخوفها لتجد في نهاية المطاف سبعة أقراص مضادة للعدوى تأطّرت بها في محاولة لتغيير الإطار فحُبست في قطرها وتحرّرت في لونها إلى أن اكتسبت مناعة فنيّة بعثتها فينا عبر هذه الموجات اللّونيّة والخطيّة للحظة سُرقت من الزّمن نسينا فيها قساوة الوباء ورقصنا مع لوحاتها رفقة الكمان حتّى شعرنا بالأمان.

بقلم الدّكتورة ياسمين الحضري

قد يعجبك ايضا